السينوغرافيا في المسرح
مصطلحات فنية عديدة، تحضر في الحياة الفنية وبشكل خاص في الدراما بأنواعها، إن كان في المقالات النقدية والعديد من البرامج الحوارية التلفزيونية وأيضا عبر موجات الـ”أف أم”، دون أن يكون لهذه المصطلحات أي توضيح يجعل من يقرأها أو يسمعها يعلم ماذا تعني وينسجم معها، لكن ذلك لا يحدث وبذلك تربكه هذه المصلحات والمسميات التي يجهل معناها، وتجعله ربما لا يتابع القراءة أو المشاهدة، معتقدا أن المشكلة فيه، لا في ما يقرأ من مصطلحات اختصاصية دون توضيحها.
من تلك المصطلحات يحضر وبشدة خصوصا في المقالات التي تتناول العروض المسرحية، مصطلح “السينوغرافيا”، الذي يبدو وكأنه لفظ فضائي، وبالتأكيد من يقرأه في مقال ما وهو لا يعرف معناه، فكل المقال سوف يصبح بلا معنى، لأن القارئ ببساطة، سيترك ما لا يفهمه؛ هناك من قد يهتم ويتابع أو يسأل ليعرف المعنى، أما الأغلبية، فلا، الموضوع يمكن حله عندهم ببساطة وذلك بالانتقال إلى مقال آخر، كما يفعل من يشاهد قناة ما، فلا يعجبه ما يشاهد فيغير القناة، فما هي السينوغرافيا؟ وماذا تعني ولماذا هي موجودة في الفنون عموما.
بداية يوجد أكثر من تعريف للسينوغرافيا وعلى عدة مستويات أو مراحل؛ الكلمة والتي هي من أصل يوناني، تتكون من كلمتين مركبتين، هما: “السينو” وتعني خشبة المسرح ، و”غرافيا” فتعني أن تكتب، وهي بذلك تعني “فن تصميم المناظر المسرحية”، من خلال تصور مدروس ومحنك، يضعه السينوغرافي للعمل المسرحي، حسب السيناريو والفكرة المراد تقديمها؛ أما تعدد التعريفات المتعددة لهذا المصطلح، فمرده إلى تطور مفهوم “السينوغرافيا” وآليته في الفنون، إن كان على المستوى التقني أو البصري، وحتى الشكل العام، فلطالما وظف المسرح العديد من الفنون في الفرجة التي يقدمها، لتكون في خدمة فرجته، لذا كان لا بد من ناظم يضبط إيقاع هذه الفنون ومدى تآلفها وانسجامها بين بعضها البعض في العمل الفني، لتعمل على إنجاحه، لا لتثقل عليه، فتظهر هي، وهو يختفي، لذا لعبت السينوغرافيا الدور الأهم في هذا الربط بين الفنون، جامعة بأصابع عدة، الخيوط التي قد تكون حركتها هي من يُنجح العمل الفني أو يفشله، فمثلا إن كان العرض يرجع لحقبة الثمانينات، فلا يمكن للممثل استخدام الجوال، إن كان في العرض شيء من العنف، فالموسيقى الرومانسية غير مناسبة هنا، وهذا ينسحب أيضا على الصورة العامة للعرض، هذه أمثلة بسيطة، عن مهمة السينوغرافي في بناء الصورة العامة للعرض، غائصا في كل تفصيل من تفاصيله، بدءا بالنص مرورا بعمل المخرج نفسه، الذي يصبح–أي السينوغرافي-، هو العين الثاقبة، التي ترى ما لا يراه المخرج في النص نفسه،وهو من يحرر بصريا ماوراء النص والقصة عن طريق خلق عالم نراه بأعيننا ولا تسمعه آذاننا، كما أنه يجب أن يكون فنانا بفهم كيفية العمل ودمج أفكار المخرج، فهم النص ككاتب، يكون حساسا لاحتياجات الممثل الذي يواجه الجمهور، وخلق فضاءات الخيال الملائمة للإنتاج، عدا عن وجوب فهمه أيضا الموسيقى والصوت كموسيقي وملحن، والحركات كراقص، وتأثيرات الضوء والظل كرسام فنون جميلة ومصور فوتوغرافي.
إذا تطور مفهوم السينوغرافيا وتطورت مهامها مع التطور الذي يصيب المجتمعات عموما، وغالبا ما يكون الفن مرافقا لهذه التطورات، هذا مالم يسبقها إليها، ومن بعض التعريفات لهذا المصطلح، يمكننا ملاحظة هذا التطور في المفهوم، المرافق للتطور الفني الذي كان لا بد منه، ليناسب الزمان وأهله، فالمسرح يمزج بين ثلاثة عناصر رئيسية، هي اللغة والحركة والتشكيل، لذا فإنه لا مجال لفهم هذا الفن بمعزل عن تفاعل هذه العناصر جميعاً، كما أن أي توصيف لنجاح أو إخفاق العرض المسرحي، سوف يكون ناقصاً ما لم يقدم قراءة سينوغرافية في هذه العناصر مجتمعة؛وإذا تتبعنا تاريخ السينوغرافيا وتطورها التعاقبي، فسنجد أن هذا المفهوم قد انتقل من مفهوم الزخرفة والتزيين في الشعرية المسرحية الكلاسيكية،ليُعنى بالعمارة والمنظور مع بدايات عصر النهضة، ولتُعنى فيما بعد بتأثيث الخشبة بالديكور والمناظر، ثم لتتخذ في العصر الحديث مفهوما أشمل باعتباره فنا مركبا يجمع بين العلامات اللغوية والبصرية والسمعية أو ما يسمى بفن الصور المرئية أو البصرية عامة،والسينوغرافيا بمفهومها الحديث هي اكتشاف وليس اختراع، وذلك لامتداد رحلة تصميم المناظر وإعداد الخلفيات، والتطور المتسارع للفن ادخل تأثيرات حركية بدوره عليها؛ وكثيراً ما يتم نسبة مصطلح السينوغرافيا إلى اللون أو الإضاءة أو الديكور أو مكونات الخشبة، في حين أن الدراسات المتخصصة في هذا المجال تقدم تعريفاً أشمل، لا بل إن بعضها يلصق الغموض بهذا المفهوم الحيوي بحيوية المسرح نفسه، ومقدار ما يفجره من أسئلة جديدة، وما يمكن أن يقدمه من مقترحات فنية مغايرة ومختلفة.
من هذه التوصيفات التي تدل على المضمون أي السينوغرافيا في المسرح:(السينوغرافيا هي الخط البياني للمنظر المسرحي)، أو:(فن تنسيق الفضاء المسرحي والتحكم في شكله بهدف تحقيق أهداف العرض المسرحي، الذي يشكل إطاره الذي تجري فيه الأحداث)،وتعني أيضا:(فن تصميم مكان العرض المسرحي وصياغته وتنفيذه، ويعتمد التعامل معه على استثمار الصورة والأشكال والأحجام والمواد والألوان والضوء)، وفي تعريف غير بعيد هي(فن تشكيل المكان المسرحي، أو الحيز الذي يضم الكتلة، والضوء واللون، والفراغ، والحركة)، وهي العناصر التي تؤثر وتتأثر بالفعل الدرامي الذي يسهم في صياغة الدلالات المكانية في التشكيل البصري العام، لذا فالسينوغرافي هو مصمم مسرحي متخصص في تصميم جميع العناصر البصرية للعرض المسرحي، وذلك باستخدام نهج كوني شامل ومفهوم.
لا تكتمل السينوغرافيا ولا تحقق غرضها حتى يأتي الممثل إلى خشبة المسرح ويحرك الجمهور،ويمكن اعتبارها بمثابة بيان مشترك للمخرج والفنان التشكيلي ووجهة نظرهما من المسرحية والأوبرا أو العمل الراقص الذي يتم عرضه على الجمهور كقطعة موحدة من العمل.
تمّام علي بركات