ثورة “23 يوليو” وعروبة مصر
د. صابر فلحوط
كانت العواصف والرواجف، في عز صولتها وسطوتها في الوطن العربي من شواطئ الأطلسي في المغرب، حتى ظلال النخيل في بغداد، وكانت رياح الاستقلال تتهيأ حاملة مقدمات الثورات الشعبية لتكنيس الاستعمار على تعدد ألوانه وفجائعه وصنوفه (فرنسية، بريطانية، وإيطالية وغيرها). كما كانت المنطقة، بعد الحرب العالمية الثانية تعج بالارتباك والتشويش في الرؤية والرؤى والايديولوجيات، حيث المعسكران الأكبران: حلف الأطلسي الاستعماري الرأسمالي الغربي بزعامة أمريكا، وحلف وارسو الاشتراكي التقدمي اليساري الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي..
وكانت في الوقت عينه الحرب العربية الصهيونية الأولى /1948/ ما تزال تضمد جراحها النغارة، وتلملم أشلاء كرامتها المهدورة بعد سلسلة من الهزائم في مقدمة أسبابها، السلاح الذي يطلق للخلف في معارك فلسطين، والحكومات التي تنام على مخدات صانعيها من بقايا أزلام الاستعمار في مغرب الوطن ومشرقه.. إضافة إلى مسلسل الانقلابات العسكرية التي ضربت أكثر من قطر عربي، والأحلاف المشبوهة داخل البيت القومي، وأبرزها حلف بغداد وقيام “الجامعة العربية” بوصفة بريطانية، وعبر هذه الأجواء المسرطنة بكل أسباب الأخطار والانهيار ولدت ثورة /23 يوليو 1952/ بقيادة كوكبة من الضباط الأحرار في جيش مصر العربية بقيادة البكباش جمال عبد الناصر الذي امتحنته الأقدار يوم جرح، وخالط دمه الطهور أرض فلسطين في الفلوجة، حيث انطبق عليه قول جدنا المتنبي( كأنك في جفن الردى وهو نائم)، كما تجرّع مع رفاق السلاح مأساة الأسلحة الفاسدة التي اشترتها القيادات الفاسدة من حاشية الملك فاروق.. وقد تمكّن الزعيم عبد الناصر من اجتراع معجزة الثورة في مصر، حيث بدأ بدعم الجذور المتأصلة في تربة الوطن، وهم العمال والفلاحون والغلابة في الشارع المصري، وكانت صرخته المدوية الإعصار عبر إذاعة صوت العرب (ارفع رأسك يا أخي)، وتوالت الإنجازات وشمخ منسوب التلاحم الشعبي في الشارع خلف زعيمه من (المحيط الهادر إلى الخليج الثائر)، وانتعشت ثورة الجزائر التي كانت قد قطعت من عمرها أكثر من قرن على الصفيح الحامي الفرنسي الذي اعتبر الجزائر هي فرنسا ما وراء البحار، وقد أبدعت ثورة يوليو بقيادة ناصرها، فكان تأميم قناة السويس وإعادة الحق العربي من أنياب الاستعمار البريطاني، وكانت المنازلة الكبرى بين مصر مسنودة من شعبها في الدار القومية الكبرى، ودول العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الصهيوني، وكان الانتصارالهائل الذي شهد له العالم بالإكبار والجدارة والجسارة، والذي جعل من الزعيم قائداً على المستوى العالمي، ما أهله إلى الخطوة السياسية الثانية، وهي تسنم قيادة حركة عدم الانحياز إلى جانب عمالقة ذلك العصر (نهرو – وتيتو وسوكارنو- وشؤون لاي)، وقد ضمت الحركة قادة وشعوب القارات الثلاث ( آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية)، والتي كان لها التأثير المركزي في التخفيف من غلواء الصراع الدولي، وضبط إيقاعه لمصلحة الشعوب المقهورة، والطامحة للحرية والكرامة والاستقرار..
وقد خاضت ثورة يوليو معركة الإنسان في مصر، فأدركت أن حاجات المواطن المادية تتساوق مع حاجاته الروحية والثقافية والمعنوية، فكانت الإنجازات المدهشة على الأرض ممثلة بالسد العالي الذي حوّل الصحراء إلى جنات، وجعل علاقة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي غاية في الصلابة والقوة، لأنها ارتبطت برغيف الخبز والكرامة في العيش الشريف من جهة، ومواجهة الصهيونية بالسلاح السوفييتي من جهة أخرى، وكانت أعظم خطوات ثورة يوليو القومية هي إقامة الوحدة مع سورية العربية التي كان فيها حزب البعث العربي الاشتراكي يتصدر النضال في الشارع الشعبي بعد القضاء على مسلسل الانقلابات العسكرية وإقامة الحكم الوطني الديمقراطي، ورفض الأحلاف التي كانت تطوق سورية العربية محاولة إعادة القيد إليها مع الجلاء الأغر عام 1946 الذي دفع ثمنه أبناء سورية، ما أهلهم أن يتسنموا رفرف المجد من خلال قول أمير الشعراء أحمد شوقي (جزاكم ذو الجلال بني دمشق وعز الشرق أوله دمشق)
كما تحقق بنضال البعث وحاضنته الشعبية الغرز الفكري والثقافي والتقدمي والذي عبّرت عنه انتخابات عام 1956 بين البعثي رياض المالكي والإخواني مصطفى السباعي.
وقد قام البعث بأعظم تضحية يمكن أن يقدم عليها حزب سياسي في شباب تألقه، وهي حل تنظيمه في القطر السوري عربوناً للجمهورية العربية المتحدة ورمزها الزعيم عبد الناصر.
وقد استطاعت الوحدة خلال عمرها القصير /1958-1961/ أن تجعل العدو الصهيوني من سدنه الرجعية ونواطير النفط، تتقاذفهم أمواج الرعب من التطور المتسارع القوة والدولة القومية الوحيدة والتي تمسك بزمام الشارع العربي، حيث يرد المواطن القومي قول الشاعر العروبي:
(يوم أمسي في الأطلسي يميني دون حدٍ وفي الخليج شمالي)
وقد تحالفت إدارة البيت الداخلي للوحدة مع أعداء هذا البيت، وفي المقدمة العدو الصهيو أمريكي والرجعية النفطية، فكان الانفصال الأسود الذي شكّل يوم حزن ومأساة كسرت الحلم القومي، وحفرت عميقاً في القلب والوجدان في الوطن الأكبر من أقصاه إلى أقصاه.
غير أن الأحرار والثوار الذين يرون في كل ضيق جديد فرجاً جديداً لا بد أن تبقى شعلة الطموح والصحوة لديهم دائمة التوهج لتضئ عتمات الواقع مهما ادلهمت، ولعل انتصارات جيشنا الأسطوري في سورية العربية، والتي تتوالى بفضل صمود شعبنا الجبار، وقيادتنا المفولذة الأعصاب هي المؤهلة لقلب المعادلات، وصنع المعجزات، وتحقيق الأهداف عبر القضاء بالنصر الناجز على الإرهاب التكفيري الوهابي الرجعي، وتحرير كل شبر من الأرض العربية دنسه العدو، وفي المقدمة فلسطين قضية الأمة المركزية.
ولابد ونحن نمجّد ثورة يوليو العروبية وشعب مصر العظيم، وننحني إجلالاً لروح قائدها، ورمز انتصاراتها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر من التذكير ببيتي الشعر قالهما الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) في عز الثورة السورية الكبرى التي هشّمت الاستعمار الفرنسي وهزمته:
(من مبلغ مصر عنّا ما نكابده
إن العروبة في أعناقنا ذمم)
(ركنان للشرق لم تُفصم عرى لهما
هم نحن إن رزئت يوماً ونحن هم)