الحرب الناعمة على القضية الفلسطينية
د. محمد طي
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
كانت بلادنا وأمتنا ومازالتا تتعرّضان لمحاولات قديمة جديدة من أجل صياغتها وإدراجها واستخدامها في المشاريع التي رسمتها القوى الغربية ومازالت ترسمها للمنطقة وحتى للعالم، ولعلّ واسطة العقد في منطقتنا وأمتنا هي فلسطين لما لها من موقع جيواستراتيجي يفصل شرق المنطقة العربية عن غربها، ويتحكّم بأهم ممرّ بحري في العالم وهو قناة السويس، ما جعلها تتعرّض لمؤامرة من أخطر ما تعرّض له بلد في التاريخ الحديث وربّما القديم، ولا تضاهي هذه المؤامرة في فظاعتها إلا المؤامرة التي تعرّض لها سكّان أمريكا الأصليين، ومن أجل تنفيذ المؤامرة المذكورة استخدمت الدول الاستعمارية القوّة بمعناها الأشمل: القوّة المسلّحة والإغراء، والإقناع، هي استخدمت القوّة الصلبة التي تقوم على التهديد أو الإكراه، أو على الإغراء لتحقيق ما أرادت، أي ركّزت، كما يقول جوزيف س. ناي “على المغريات– الجزرات- وعلى التهديدات– العصي-“، لكنّها لم تعتمد أشكال القدرات هذه وحسب، بل استخدمت “الوجه الثاني” للقوّة، فما هو هذا الوجه الثاني؟.. إنّه القوّة الناعمة.
القوّة الناعمة
قد يتمكّن بلد ما، كما يقول ناي، من الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية، لأنّ هناك بلداناً أخرى معجبة بمثله وتحذو حذوه وتتطلّع إلى مستواه، تريد أن تتّبعه، وبهذا المعنى، فإنّ من المهم أيضاً وضع جدول الأعمال أي وضع البرنامج للآخرين، واجتذاب الآخرين في السياسة العالمية، وليس فقط إرغامهم على التغيير بتهديدهم بالقوّة العسكرية، أو العقوبات الاقتصادية، فهذه “هي” القوّة الناعمة، جعل الآخرين يريدون ما نريد، نختار للناس بدلاً من إرغامهم.
إنّ هذا ما يأتلف مع الديمقراطية، كما يرى جوزيف ناي، إذ يقول: “والقوّة الناعمة هذه ضرورية للدول “الديمقراطية” المضطرّة إلى الإقناع بدلاً من القسر، فهي لهذا عنصر ثابت في السياسة الديمقراطيّة- التي تعتمد مثلاً- الشخصيّة الجذّابة، الثقافة، المؤسّسات والقيم السياسيّة، السياسات التي يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنويّة أو أخلاقيّة”، لكنّها “أكثر من مجرد الإقناع أو القدرة على استمالة الناس بالحجّة، كما تقتضي الديمقراطيّة، بل هي أيضاً القدرة على الجذب، والجذب كثيراً ما يؤدّي إلى الإذعان”.
الحرب الناعمة
الحرب الناعمة هي استخدام القوّة الناعمة لتحقيق الأغراض الخاصّة بالمرسل، فهي أساليب خبيثة تستخدم لتحقيق أهداف يمكن استخدام القوّة الصلبة لتحقيقها، لكن بتكاليف أضخم، من هنا يمكن تعريفها بأنّها مجموعة من الأفعال العدائيّة المدبّرة الهادفة إلى تحويل القيم الثقافيّة الأساسيّة كما الهويّة لمجتمع ما، إنّ هذا النموذج من الحرب يمكن أن يؤثّر في كلّ المظاهر السيكولوجيّة، إنّها باختصار: نشاط متعمّد ومخطّط، وإنّ أكثر ميادينه أهميّة هو الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، إلاّ أنّ أساليب الحرب الناعمة لا تبقى دائماً هي نفسها، بل هي تتبدّل حسب الظروف والمعطيات وتطوّر القناعات والأذواق.
إنّ تحقيق الأهداف لا يمكن دائماً بالقوّة الناعمة، لذلك تعمد القوى الاستعمارية إلى المزاوجة بين القوّة الناعمة والقوّة الصلبة، وهذا المزج يشكّل ما يسمّى “القوّة الذكيّة”، على أنّ المزج لا يعطي حاصلاً حسابيّاً بسيطاً، لأنّ هناك علاقة جدليّة بين القوّتين، خاصّة أن القوّة الصلبة لها أيضاً جانب جذّاب أو ناعم، لأنّ الناس تميل إلى القويّ، وإن كانت تشفق على الضعيف، كما أنّ القوّة الصلبة قد تستخدم لإحداث نتائج محبّبة وجذّابة، ففي الحرب على العراق كانت هناك مجموعة أخرى من الدوافع لها علاقة بالقوّة الناعمة، فقد اعتقد المحافظون الجدد أنّ القوة الأمريكيّة يمكن استخدامها في تصدير الديمقراطيّة إلى العراق، وفي تحويل سياسة الشرق الأوسط، كما تخاض حرب ناعمة، إلى جانب مظاهر الحرب الصلبة بواسطة التهديد المبطن أو العمليّ.
وسائل الحرب الناعمة على القضية الفلسطينيّة
وإذا كنّا بصدد معالجة الحرب الناعمة على القضيّة الفلسطينيّة، فإنّنا لا نستطيع أن نحصر بحثنا بفلسطين، لأنّ التخطيط لاحتلال فلسطين كان يستهدف المنطقة بكاملها، ولأنّ العدوّ الصهيوني يهدّد اليوم كلّ أقطارها، وأخيراً لأنّ الامبريالية والصهيونيّة مقتنعتان بأنّ شعوب المنطقة كافّة تدرك ضرورة التصدّي للمؤامرة الدائمة وللاحتلال، وهما تعملان على منع أسباب القوّة الماديّة والمعنويّة عن المنطقة بكاملها بواسطة حرب مستدامة، قد تغلب عليها سمة النعومة حيناً، وسمة الخشونة حيناً آخر، على أنّنا سنركّز على الحرب الناعمة، من هنا نرانا ملزمين بكشف وسائل الحرب الناعمة على المنطقة، ثمّ على القوى الفلسطينيّة.
الحرب الناعمة العامّة على المنطقة
تستخدم أمريكا والغرب عموماً كافّة الوسائل التي بيّنها جوزف ناي، ومنها: الجاذبيّة و”القيم”: يقوم ذلك على الترويج لـ”القيم” الأمريكيّة، وإغراء شرائح اجتماعيّة واسعة بها من الشباب والنساء والقادة العسكريّين.
فقد ورد في تقرير “التكييف الاستراتيجي الأمريكي حول سورية مثلاً أنه “ينبغي على الولايات المتّحدة مواصلة سياسة الدبلوماسية الإجباريّة للضغط على الحكومة”، ويضيف التقرير المذكور، مشيراً إلى ضرورات التواصل مع الشرائح الشعبيّة، بأنّه يتمّ استخدام وسائل الإعلام الاجتماعيّ والدبلوماسية الالكترونيّة بشكل مكثف أكثر من قبل وزارة الخارجية الأمريكيّة، إضافة إلى “الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة”، والبنتاغون، وقنوات رسميّة أمريكيّة أخرى. ويوصي التقرير بأنّه ينبغي على الولايات المتّحدة أن تشجّع الجامعات الأمريكيّة ورجال الأعمال الأمريكيّين على تأسيس مراكز وفروع مكاتب للانخراط مع الشعوب، والمشاركة في المشاريع وقطاع الأعمال في الشرق الأوسط، ولا ينسى التقرير التذكير بضرورة أخذ الهواجس الشعبيّة العربيّة بالحسبان، وضرورة تلميع صورة الولايات المتّحدة في المنطقة العربيّة، فيوصي بأنّه ينبغي على الولايات المتّحدة أن تضع الإصلاح السياسيّ والاقتصاديّ في الشرق الأوسط كأولويّة عالية، ليس فقط لأنّ إصلاحاً كهذا ينسجم مع القيم الأمريكيّة، وإنّما لأنّ الإصلاح سيعزّز المصالح الاستراتيجية الأمريكية أيضاً.
الإعلام
يلعب الإعلام الأمريكيّ دوراً بالغ الخطورة في استراتيجية الحرب الناعمة الأمريكيّة عن طريق معالجة الأخبار وتوجيهها وحتّى اختلاقها، وفي منطقتنا، يقوم الأمريكيّون بشراء الذمم الإعلامية، لكنّهم لا يكتفون بهذا، بل هم يستخدمون إعلامهم العاديّ، كما يقيمون محطات تلفزيونيّة وإذاعيّة موجّهة إلى البلدان العربيّة.
مناورات متعدّدة الجنسيّات في الولايات المتّحدة
تهدف المناورات العسكريّة متعدّدة الجنسيّات إلى تعزيز التعاون وتقوية العلاقات وتعزيز الشراكات، لكن وإن كانت فرص التدريب المشترك في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا محدودة، فإنّ العديد من الطرق تسمح بشمل دول شريكة في فعاليّات التدريب في الولايات المتّحدة، خاصّة في مراكز التدريب على القتال في فورت ايروين بولاية كاليفورنيا وفورت بولك بولاية لويزيانا.
كما يمثّل تبادل ضبّاط الأركان مع جيوش دول المنطقة أهميّة خاصّة بالنسبة للجيش الأمريكيّ، حيث إنّ ما يقرب من 90 في المئة من القوّة العسكريّة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متمثّلة في القوّات البريّة، وعلى الرغم من أنّ الجيش الأمريكيّ يضطّلع في الوقت الراهن بمهمّة دمج الضبّاط الذين يتمّ تبادلهم من الدول الشريكة، إلاّ أنّه يقوم بذلك على مستوى الفرقة أو مستويات أعلى، ويتحدّر الضبّاط المعنيّون بشكل عام من دول حلف شمال الأطلسيّ، على سبيل المثال، بريطانيا، كندا، أو استراليا، ومن خلال إضافة الضبّاط الذين يتم تبادلهم من الدول المحدّدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يمكن للوحدات والمقرّات الأمريكيّة المسؤولة عن تلك المناطق أن تعزّز إلى حدّ كبير من استيعابها لما يجري في المنطقة، وتعزيز سبل التعاون في المستقبل.
ومن الواضح أن مصالح الولايات المتّحدة في الشرق الأدنى ستظلّ جوهريّة من الناحية الاستراتيجية في المستقبل القريب، ومن خلال صقل مهارات معظم القادة الواعدين عن طريق التدريب العسكريّ المهنيّ في الولايات المتّحدة، وزيادة برامج تبادل الضبّاط، ودمج الوحدات الأجنبيّة في الدورات التدريبيّة الكائنة في الولايات المتّحدة، يمكن لواشنطن كسب نفوذ طويل الأمد مع جيوش الدول الشريكة في جميع أنحاء المنطقة وبأقلّ التكاليف.
الحرب الناعمة الصهيونية
لا يكتفي العدوّ الصهيونيّ بارتكاب كلّ أنواع الجرائم ضدّ الشعب الفلسطينيّ، بل ويشنّ عليه حرباً ناعمة خبيثة من خلال العلاقات القائمة بين الطرفين وأهمّ عناصرها:
– أنّ السلطة الفلسطينيّة والتي تعدّ الحكومة في الأراضي الفلسطينيّة تعترف بـ “إسرائيل”، وتتّخذ المفاوضات والحلول السلميّة طريقاً لحلّ النزاعات معها.
– أنّ العلاقات الفلسطينيّة “الإسرائيلية” بعد اتّفاق أوسلو13 أيلول 1993 شهدت حالات مختلفة بين حرب وسِلْم، كما يقوم تعاون مشترك بين السلطة الفلسطينيّة و”إسرائيل” في كثير من الميادين بحكم الأمر الواقع.
– أنّه لا يوجد بين السلطة الفلسطينيّة و”إسرائيل” أيّ تبادل سفارات، ولكن هناك مكاتب ودوائر مشتركة بينهما للتنسيق المشترك في الأمور الأمنيّة والاقتصادية وغيرها مثل مكتب الارتباط الذي ينسق إعطاء التصاريح للفلسطينيّين لدخول الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة سنة 1948.
– أنّ اقتصاد السلطة الفلسطينيّة وبحكم الأمر الواقع مرتبط بالاقتصاد “الإسرائيلي”، حيث إنهّا تعدّ سوقاً “إسرائيلياً”، كما أنّ العملة الأكثر تداولاً شعبيّاً بحكم الأمر الواقع في الأراضي الفلسطينيّة هي الشيكل “الإسرائيلي” .
أما أهمّ أساليب الحرب الناعمة الصهيونيّة ضدّ الفلسطينيّين فيمكن تصنيفها على النحو الآتي:
الإعلام
يشنّ العدوّ هجوماً إعلاميّاًّ عدائياً مبرمجاً يستهدف التأثير على عقول الأفراد ونفسيّاتهم ومعتقداتهم، عبر إثارة الإشاعات والبلاغات الكاذبة والدعايات والفتن بهدف غرس الخوف والتمزق في نفوسهم، وزعزعة ثقتهم بقياداتهم، وقد أصبح بمقدور هذه الحرب الناعمة عبر التكنولوجيا المتطوّرة أن تعتمد أساليب علميّة ذكيّة للتأثير على نفسيّات الأفراد والتشكيك بأفكارهم وقدراتهم.
فقد خاض العدوّ عبر التلفزيون والإذاعة حرباً إعلاميّة، عبر حملات دعائيّة نفسيّة للتأثير على الروح المعنويّة والسياسيّة لأبناء الشعب الفلسطيني خاصّة، والشعوب العربيّة عامّة، واستخدم في سبيل ذلك أرقى أنواع التكنولوجيا، وأساليب التمويه بالغ الدقّة. كما استغلّ العدوّ عدم ثقة العرب بإعلامهم ليتمكّن من استقطاب مستمعين فلسطينيّين وعرب لفترة طويلة، واستخدم وسائل إعلامه كمصدر لجمع المعلومات وتجنيد العملاء، من خلال برامج تبدو بريئة وإنسانيّة مثل: برنامج “سلامات، “وبرنامج “استوديو رقم واحد”، و “بين السائل والمجيب”، هذه البرامج كانت موصولة مباشرة مع المخابرات “الإسرائيلية”، فقد استخدمتها “الشاباك” و”الموساد” في إسقاط العديد من الفلسطينيّين والعرب ودفعهم إلى العمل لصالح الاحتلال. ولعلّ من أخطر البرامج التي تبثّ باللغة العربيّة والتي تستهدف تحقيق أهداف الاحتلال: برنامج “حصاد الأسبوع” على القناة الثانية، وبرنامج “لتقريب البعيد” الذي تبثه إذاعة المستوطنين على القناة السابعة، بزعم تحقيق التعاون بين اليهود والعرب، وخصوصاً المتديّنين، وكذلك برنامج “يا هلا” الذي تقدّمه القناة العاشرة، ويساعده على ذلك أيّ نشاط اقتصاديّ يمارسه بعض الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة سنة 1948.
النتائج
لقد ساهمت الحرب الناعمة بإحداث نتائج مقلقة بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة، ناهيك عن القضايا العربيّة الأخرى.
التخلّي عن القضيّة
على الصعيد العربيّ تمّ إلى حدّ خطير التخلّي عن القضيّة الفلسطينيّة وسائر قضايا النضال التحرّريّ العربيّ، حتى أصبح شعار أبناء اتجاه الستينيات والسبعينيات الناصريّ، يسيرون اليوم في ركب أمريكا تحت شعار “بدنا نعيش”، ولم يعد بعض من كانوا ينادون بالمقاومة ويفاخرون بممارستها يمانعون في اللجوء إلى أمريكا لتساعد في القضاء على المقاومة، ولو بيد العدوّ الصهيونيّ، أي أنّهم أصبحوا يريدون ما تريد أمريكا ومن خلفها العدوّ الصهيونيّ.
أمّا الجيوش فأصبحت مرتبطة بأمريكا، وببعض دول الغرب الأخرى بدرجة أقلّ، تدريباً وتسليحاً مهما كانت تكلفة ذلك باهظة، والكثير منها لم يعد يمانع في القيام بأيّة مهمّة خدمة لنظامه المتنكّر لقضايا الأمّة والشعب.
ترداد المصطلحات الصهيونيّة
كان من نتائج الحرب الإعلاميّة “الإسرائيلية” ضدّ كلّ ما هو عربيّ بصفة عامّة، وفلسطينيّ بصفة خاصّة، العديد من المصطلحات والمقولات الخاصّة بالعدوّ والتي سعى هذا الإعلام إلى ترسيخها في وجدان العالم، ودسّها في لغتنا اليوميّة، بحيث اعتاد العديد من الكتّاب والسياسيّين على استخدامها، وهذه المصطلحات تستهدف بصفة خاصّة استبدال الصورة العربيّة، ومحو الهويّة الفلسطينيّة، وتهويد التاريخ والأرض، واغتيال الحاضر الفلسطينيّ المناضل، وهكذا فقد أصبح عدد من المصطلحات جزءاً من المصطلحات الإعلاميّة العربيّة والفلسطينيّة، مثال: ” إسرائيل بدلاً من فلسطين المحتلّة- عرب إسرائيل بدلاً من الشعب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة سنة 1948، وغيرها من المصطلحات”
إنّ هذه الحرب، بشقّيها الناعم والصلب، لن يكتب لها النجاح. ففي جانبها العسكريّ وصلت إلى نقطة توازن الرعب التي سيتجاوزها إيجاباً، وحسب السنن التاريخيّة الثابتة، المظلوم وصاحب الحقّ إلى النصر على المدى البعيد، وفي جانبها الناعم، يقدّم العدوّ ومَن وراءَه كلّ يوم غير دليل على كذبه ونفاقه وغدره وأطماعه التي لا تحدّها حدود.