حناجر أطفال عدرا العمالية تصدح بالتراث.. وتغني لوحة “سورية الأم”
من قلب الحصار ابتدأت الحكاية.. من الأقبية التي كانت ماتزال تئن تحت وطأة إرهاب حاول استلاب أرضها.. من ضحكات خافتة تهاب أن تصل إلى من يحاول إسكات صوت الحياة في كل سوري.. ابتدأت الأغنية الأولى، والنغمة الأولى.. والحلم الأول، عبر الأمسية الغنائية التي أقيمت مؤخراً لجوقة أطفال عدرا في المركز الثقافي في العدوي.
لم يخطر على بالنا ونحن نتجه إلى المركز أننا سنكون أمام جوقة غنائية حقيقية، ولو أتيحت لها الظروف والإمكانات والدعم المطلوبين لاستطاعت أن تنافس أهم الجوقات، فحينما اعتلى الأطفال المسرح، كنا نتوقع أن نسمع أغان طفولية، لكن المفاجأة أن هذه الجوقة قدمت كل سورية في أغانيها، فجاء اسم لوحتها “لوحة سورية الأم” اسم على مسمى، خاصة أن الأطفال الذين أنشدوها هم من كل منطقة في سورية بحكم التنوع الثقافي والتراثي بين سكان عدرا العمالية.
لوحات تراثية
بدأت الأمسية ، بكلمة ترحيبية لمديرة المركز ريم طيلوني عكست التنوع والفسيفساء التي تمتاز به المدينة العمالية ووصفتها بمدينة السماء، بإداركها للنهوض الذي تميز به هؤلاء الأطفال بعد الحرب ومفرزاتها المريرة، خاصة أن هناك عدداً من الأطفال المشاركين في الحفلة هم ممن عادوا مؤخراً من الأسر.
لعل الجمهور على اختلافه استطاع التمييز بين اللوحات، خاصة أنها تعتمد على تراث كل منطقة، فحين بدأ البرنامج بلوحة الجنوب التي أداها (الصولو) روجين الجافي، والتي تحمل بين طياتها الغناء التراثي لدرعا والسويداء والقنيطرة، كان تفاعل الجمهور واضحاً مع الأغنيات التي رسخت في أذهان أهالي تلك المدن، وأذهان من زارها وسكنها، بعد ذلك، استطاع عازفا القانون علي ديب ويعقوب الجادر على الرغم من سنواتهما الصغيرة أن ينقلا الجمهور إلى فسحة من التأمل والجمال من خلال العزف الذي قدماه على القانون سماعي بيات قديم، ليأتي نصيب لوحة الغرب التي تعبر عن التنوع الغنائي لللاذقية وطرطوس وحماة وحمص والتي أدت الغناء الإفرادي لها (صولو) الطفلة هيا شحود ذات العشر سنوات، بكثير من الإتقان ما جعل الجمهور يرفع يديه مصفقاً ومشاركاً في هذه اللوحة.
بعد ذلك قدم يعقوب الجادر عزفاً إفرادياً على آلة القانون مقام بيات الحسيني، كانت مدخلاً للوحة الشرق التي تعبر في جوهرها عن تلك المنطقة (الرقة ـ دير الزور ـ القامشلي) والتي أدت الغناء الإفرادي الصولو (شغف الجادر)، وأدى يعقوب أيضا ارتجالات على مقام الحجاز “كار كردي” كانت تمهيداً للوحة الشمال ومقاماته المتنوعة، وقد أداها بامتياز ثم قدمت الجوقة لوحة الشمال على مقام الحجاز تضمنت أغاني تراثية من حلب وإدلب أدت الغناء الإفرادي الصولو شغف الجادر.
ولم يتوقف الأمر عند اللوحات الثلاث التي تحدثنا عنها مسبقا، إذ قدمت الجوقة من خارج الحفل ياطيور لمحمد القصبجي، وقد حلقت شغف الجادر بصوتها وعربها المميزة رغم صغر سنها بفضاء الأغنية وتنويعاتها وتعرجاتها المختلفة والمعقدة، وشاركها في العزف على القانون يعقوب الجادر.
وختمت الحفلة بلوحة قصيرة عن دمشق زينو المرجة بتوزيع وأداء جديد لاقت إقبالا وتفاعلا مع الحضور.
البداية من الأقبية
وفي وقفة مع مشرف الجوقة المايسترو يوسف الجادر، تحدث لنا عن بدايات الجوقة والصعوبات التي واجهتها والعمل الدؤوب الذي قامت به لتصل إلى ماهي عليه الآن، حيث ابتدأ الجادر بمحاولة جمع الأطفال الموجودين في أماكن قريبة، علّه يخلق لهم عالما يطلون من خلاله إلى أرواحهم البريئة، إلى ابتساماتهم الغائبة، وهنا كانت البداية، وعن تلك الفترة يتحدث الجادر قائلا: “انطلقت الفكرة من الحصار في عدرا العمالية، حيث كنت أجمع الأطفال علّي أخرجهم من بؤس الجوع والحرمان بأن أخلق لهم ألعاباً غنائية، فكنا نغني بأصوات منخفضة خوفاً من أن يسمع المسلحون أصواتنا، ثم تحررت عدرا، لكن الحرية التي نالتها مدينة السماء كما لقبها الكثيرون، لم تنس أطفالها أغانيهم التي بدؤوها في الأقبية المحاصرة.
بعد عودة الأمان إلى المنطقة ألحت الفكرة على يوسف الجادر بشكل كبير، ما جعله يقيم في تلك المنطقة، ليبدأ التمرينات مع أطفال الحارة، ثم جاءت فكرة إعادة افتتاح المركز الثقافي بالعمالية في الأول من آب الماضي، ويضيف الجادر: “بدأنا نتمرن لنشارك باحتفالية إعادة الافتتاح، وقد شاركت بالافتتاح مديرة ثقافة ريف دمشق ليلى صعب، التي فوجئت بالعمل الكبير المقدم على الرغم من الإمكانيات المتواضعة، حيث وافقت مديرية الثقافة على تأسيس جوقة مجاناً، على أن تؤمن لنا مكان التمرين فقط، وبدأنا نتمرن كل يوم ثلاثاء إلى أن شاركنا بالحفلة الأولى في آذار الماضي بفعالية توقيع كتاب للشاعرة خالدية المعيجيل، فكسرنا حاجز الحضور، ونجحنا في المدينة العمالية.
لكن الموضوع لم يقف عند ذلك الحد، فقد بدأت المطالبات بحفلات خارج المدينة تبرز الأطفال أكثر، وهذا ما ألح على مشرف الجوقة ضرورة تقديم أصوات تقترب من الاحترافية. يقول الجادر: “وضعت برنامجاً مكثفاً، وتمارين فصل حواس وحركة إيقاعية للأصوات ونجحت في خلق حالة الاختلاف بالأصوات، وبدأ التركيز على امتدادات الصوت وحركته في العمل الجماعي، وشيئاً فشيئاً بدأ الأطفال يفاجئونني بسرعة تلقيهم، لأن المكان الوحيد الذي يظهر مواهبهم هو الجوقة، كما أن تعطشهم للحياة والفرح جعلهم أكثر التزاماً.”
سورية المصغرة
أما عن سبب تسمية الأمسية بـ “لوحة سورية الأم” فلأنها تعبر بشكل صريح وواضح عن المدينة العمالية التي يجمعها التنوع السوري ثقافةً وتراثاً، كما يصفها الجادر فيقول: “بدأت بلوحة الشرق والتي هي أكثر اللوحات صعوبة في فهم اللكنة واللهجة (الرقة ـ دير الزور ـ القامشلي) ثم اتضحت الفكرة أكثر بأن أجمع اللوحة بمجموعة لوحات تعبر عن سورية الأم (لوحة للشمال ـ لوحة للجنوب ـ ولوحة للغرب) وحاولت في كل لوحة أن أظهر اللكنة في أداء اللهجة، وما جعلني أكثر حرية في التعاطي مع الجمل الغنائية كون الأغنيات تراثية وموجودة أصلاً في ذاكرة الناس.
ويتابع الجادر: “في حفلتنا هذه والتي تحمل عنوان “سورية الأم” قدمنا مجموعة من اللوحات والقطع الموسيقية التي تعبر عن الحالة”.
تأسست جوقة أطفال عدرا العمالية العام الماضي على يد الموسيقي والإعلامي الزميل يوسف الجادر وشاركت بعدة حفلات في ريف دمشق، وهذه الحفلة الأولى بدمشق على مسرح المركز الثقافي العربي بالعدوي. فالجوقة تتكون من أطفال بين الخامسة والثالثة عشرة، من بيئات غنائية مختلفة، عكست التنوع الغنائي في سورية.
غياب الدعم
السؤال الأهم الذي يلح على الأذهان، كيف لهذه الجوقة أن تتأسس وتبدأ نشاطاتها دون أن تتلقى الرعاية والدعم الكافيين، أو بالأصح، دون أن تتلقى أي دعم من الجهات المعنية، وخاصة الدعم المادي، على الرغم من كثرة النشاطات والفعاليات من مهرجانات ومعارض وأمسيات تقام وتدفع عليها المبالغ الكثيرة، أيعقل أن هؤلاء الأطفال بإمكانياتهم وظروفهم، وطموحهم الكبير، لم يجدوا اهتماما ممن بيده القرار!. فإذا كانت جوقة تضم أطفالا موهوبين، عانوا ماعانوه من الأسر والحصار والإرهاب لا تستحق الاهتمام والدعم، فمن الذي يستحقه حقاً!؟.
مادلين جليس