مِن ذلك البُعد
يستيقظ باكراً، يرى الوجود في تفتّح تكراره الأبديّ، يتنسّم معنى البكارة في الأشياء، يتوجّه إلى القدرة الكونيّة الخالقة بصمت معبّر، إيماناً بأنّ الصمت في بعض المواضع صلاة.
فتح النّافذة المُطلّة على الشارع، ورأى المشهدَ ذاته، فجأةً لمحتْ عيناه رجلاً لفّ الحطاطة على رأسه وثلثي وجهه، هو ليس من زوّار الفجر الذين يأتون ليسوقوا إنسانا ما إلى حيث يعرفون ولا يعرف، كان يبحث في القمامة، نَصْلٌ حادّ اخترق أعماقه، كتم أنّة موغلة، الرجل يبحث عن شيء قد يفيده في تأمين لقمة، وهو يبحث في أعماقه عمّا يوصل النّاس إلى هذه السويّة من الاستلاب، الموائد التي يجلس إليها الموسرون كلّ يوم، ويدعون إليها أصحابهم، ومَن يرتجون نفْعهم.. هذه الموائد لو أُحسِن تجميع ما يفضل منها، لربّما أغنى إنساناً يزاحم الجرذان والقطط الضالة. يا إلهي كم في هذا الكون من عذابات؟ فإلى متى؟!.
*******
هو لا يجيء إلاّ حين تكون ورود أعماقه متفتّحة، حين تذبل، أو تحزن، ينطوي على نفسه، لا يريد أن يعرف أحداً مقدار ما يعتمل في أعماقه، فإذا آنس من نفسه انبلاجاً ذهب إلى أيّ ممّن يعتقد أنّه يستطيع أن يُشمّه ذلك العبَق الجوّانيّ.
دخل مسلّماً، صرتُ أعرف أدقّ ما يختلج في الداخل لكثرة ما تعاشرنا، قلت له: “أراك مُقْبِلا من هذه الجهة، فقد لمحتك من النافذة قبل أن تصل”؟
قال: “نعم، صحيح، كنتُ في زيارة إلى بيت أبي…..”
دهشت، قلت: “أوَلم يُتوفَّ هذا الرجل منذ زمن بعيد”؟!
قال: “بلى”.
قلت: “هل بقي من أهل بيته أحد؟! حدّ علمي أنّ حيّهم قد أكلتْه نيران الحرب الظالمة”؟!.
قال: “بلى”
قلت: “أوَلم يتهدّم بيتهم فيما تهدّم”؟
قال: “بلى”
قلت: “فمَن زرتَ إذن”؟!.
قال: “ألقيتُ نظرة على البيت الذي كان لهم، وعدت”.
توقّفتُ عن الكلام، فهانحن في هذا القرن، مازال بيننا مَن يزور الديار، ويُعرّج على الآثار، ليُوقظ ما يُهيج تلك الرائحة، نعم.. لكلّ زمن رائحته حين يعلق بك من داخل.
*******
قال له: “ها أنت قدّ فصّلت الزمن على مقاس شيء من رغباتك، وهذا يعني أنّك صرتَ أكثر استقراراً، وأعمق هدوءاً، بينما الواقع يقول إنّ ثمّة صواخب في أعماقك، بعضها يظهر في الشعر، وبعضها يتبدّى في النّثر، أما آن لذلك الطائر الجوانيّ الخافق أن يستريح”؟!.
أجابه: “بعض ما ذكرتَه صحيح، وأنا لا أكابر في الحقائق والوقائع، ويمكنني القول أنّني، في ظلمةِ ما أحاط بنا، وفي صخريّته الحادّة، تمكّنت إلى حدّ ما من إقامة توازنات ربّما بدت مريحة، وأصبحت العُزلة جزء من المحيط النفسي والخارجي، ولعلّني لا أخجل من القول إنّني أحافظ على ما تبقّى قائماً من أن ينهار، لو واجهتُ الخارج كما هو، الكوارث يا صديقي لا تُنجب إلاّ الكوارث، ولكنّها تحمل في ثناياها لمن يُجيد التحكّم بها، إمكانية الخروج منها، وتأسيس ما هو جديد، وناصع….”.
aaalnaem@gmail.com