“كفريا والفوعة” حقيقة السوريين؟
د. نهلة عيسى
أقول وبصدق شديد: الصحافة هي أكثر المهن بؤساً على وجه الأرض, لأنها تضطرك الى إثبات وتفسير ما ليس محتاجاً لدلائل وقرائن وتبريرات للناس الذين لا يرغبون في معرفة حقائق الاشياء, بقدر مايرغبون في أن تأتي الحقائق مؤكدة لما يفكرون ويعتنقون, ويتصيدون للكاتب مسالك الحروف, ليوقعوه في واو, أو ربما, أو حتى أو, وهو أمر يحول فعل الكتابة, إلى حالة أشبه بصيد التماسيح, الخطر فيها كبير, والصيد دموعه ليست رحمة, بل مجرد مؤشر على سيلان اللعاب! لكن رغم البؤس, أمارس فعل الكتابة أو النزيف الأسبوعي, وأشعر أن ذلك واجب محروس بالقلق والشغف عندي, لأن هناك كثيراً من القصص في بلادنا تستحق, ليس فقط الكتابة عنها, بل التشرف بالتصاغر أمامها, لأنها حكايات أبرمت مع التاريخ اتفاقاً على الخلود والأبدية, وبايعتها الشجاعة ملكة متوجة على كل شجاعة.
أكتب اليوم عن المهجرين قسراً من قراهم, عن أهالي كفريا والفوعة, الذين حوصروا وجوعوا وقدموا أكثر من ثلاثة آلاف شهيد, في حصار وصمود دام أكثر من ثلاث سنوات, قتل فيها تتار العصر الحديث بوحشية لا نظير لها الرجال والنساء والاطفال, وفرقوا الابن عن أمه, والأخ عن أخته, والزوج عن عائلته, ونهبوا وحرقوا وهَجروا من استطاع النجاة بجسده, تاركاً روحه وبضعة منه في تلك القرى, وفي القدر المتسع للحكاية من رحيل محكوم بامتحان هائل على مدى تحمل ثقل الخسارة.
أكتب عن المهجرين قسراً من أراضيهم , وسط وجعهم المكابر على الدمع والتفجع, وعلى فقدان وغياب, يكسرون البشر عادة, ولكنهم في حالة أهل “كفريا والفوعة” تحولوا إلى أعمدة من إصرار ويقين ارتفعت كعلم فوق رؤوس المهجرين, أن لا بديل عن دماء الشهداء سوى عودة بالنصر قريبة, إلى البيوت المجروحة بالهجر القسري.
أكتب عن المهجرين في شتاتهم, وعراء روحهم المسور بالغضب, على ملأ خليط من وحوش عرب وترك وشيشان وايغور, وحثالة حثالة الأرض, حَول مهد الرؤوس والأحلام إلى مهد آلام, وجعل الدرب إلى البساتين, مدافن عشوائية لجثث شهداء لم يحظوا بوداع أحبتهم, ولم يحظ أحباؤهم بشرف دفنهم.
أكتب عن المهجرين المباغتين بقدر لا يعمل إلا بشروطه الخاصة القاسية, ورغم ذلك هم عن القدر راضين وصابرين, ولكنهم لأدواته متوعدين منذرين, بأن خصومة دمائهم غير قابلة للصلح أو السماح والغفران, وبأن غدٍ قريب, سيكون موعداً بينهم وبين رؤوس القتلة مصلوبة على مداخل “كفريا والفوعة” ثأراً لدماء من رحلوا بالغدر, وقرباناً على مذبح نبوءة بأن الغدر مهما طال مردود على أصحابه, والنبي يوسف خير مثال.
أكتب عن المهجرين ورأسي محنية إجلالاً وكرامة لصمودهم أمام الحصار تلو الحصار, ولمرابطتهم في أرضهم على مدار سنوات, تحت وابل لا ينقطع من القذائف والصواريخ التي تجعل من حرارة الجسد عدواً للحياة, وفي قلبي خشوع لما عانوه وكابدوه وعايشوه في رحلة نزوحهم تحت وابل من الكراهية والتهديد من قبل قطعان الهمج والتتار.
أكتب والعجز شريك قلم والتقصير توءم روح, عن المهجرين قسراً,الحافظين لوطنهم الصغير, يتلونه بتدفق التفاصيل كما يحفظ التلميذ درسه الأول, أكتب عمن لا مكان لمكانهم الآن, المنتشرين كالأنهار التي تعرف مصبها، وتعشق ضفافها، وولائها الأول والأخير لينابيعها, حيث الولادة فخر, والموت زوداً عنها تكريم.
أكتب عن الناجين من الموت, وفي القلب والوجدان شهداء كل المجازر البربرية التي استهدفت القابضين على جمر حب الوطن, بداية بالجيش, وأعرف أن “كفريا والفوعة” ربما لن تكونا الختام, ولكنني وسط ردود فعل أهالي كفريا والفوعة على التهجير, عاينت كيف تعلو الهامات فوق الكرب، وأدركت ماذا تعني شارة النصر وسط بحيرة من شقائق النعمان, وآمنت أن الهزيمة لا يمكن أن تلحق بشعب يهنئ بعضه البعض بالشهادة, وكأنه يتحضر لعرس, وإننا لعائدون.