“ثياب ترامب الجديدة” تعرّيه أمام الملأ
ترجمة وإعداد: علاء العطار
منذ زمن ليس ببعيد، كان هناك امبراطور مهووس بجذب الأنظار لدرجة أن أتباعه قضوا معظم أوقاتهم في النظر إليه، وإغراقه بكلمات المديح، هذه ليست مقدمة، بل هي الرواية المحكية عن قصة نُشرت بعنوان: “ثياب الامبراطور الجديدة” للمؤلف الدنماركي “هانز كريستيان أندرسون” عام 1837، لكن هذه الأقصوصة كانت من الموروث الشعبي لأكثر من ألف سنة، وحتى أندرسون نفسه استند في أقصوصته إلى كتاب “الكوندي لوكانور” لكاتبه الاسباني الأمير دون خوان مانويل.
الآن هناك نسخة جديدة من هذه الحكاية تدور أحداثها في الولايات المتحدة، ولكن بعكس الحكاية الأصلية لا تعتبر الملابس الفاخرة نقطة ضعف ترامب، بل إنها وهج الاهتمام والمديح الدافئ الذي يصدر عن الأمريكيين المؤيدين له، سواء عن خوف أو عن قناعة، وعن بعض زعماء العالم ونظرائه الجمهوريين، وعن الصحافة، فحاجته الماسة للاستمتاع بالمديح والتوقير، وعدم قدرته على التغاضي عن ذلك الجوع في الاضطلاع بمهام الحوكمة الأساسية، وُصِفت بالتفصيل في كتاب مايكل وولف “نار وغضب: داخل بيت ترامب الأبيض”، وإصرار ترامب على أنه “عبقري” زاد من المخاوف التي أثارها ذلك الكتاب.
منذ العام الأول لتولي ترامب الرئاسة، طفا إلى السطح سؤال ملح: ألا ينبغي لأحد أن يمنعه مثلاً من إهانة الأمريكيين الأصليين، والتباهي بأن مشروع قانون الإصلاح الضريبي هدية للأثرياء، وتقويض التعديل الأول، ونشر مقاطع فيديو مزيفة، والتهديد بحرب نووية على تويتر؟ في النهاية، تتكون الإدارة الأمريكية من رجال ونساء بالغين، صحيح أن مستشاريه مستجدون في السياسة، لكنهم ليسوا أشخاصاً شديدي الحياء، فمن بينهم جنرالات، ورجال أعمال ناجحون، وعدد كبير من المحنكين في الحكومة.
وبيّن عامه الأول في منصب الرئاسة مقدار جهله، وانعدام كفاءته، وأنه غير بارع في فنون السياسة، لاسيما في الموهبة الأساسية في تقديم التنازلات المطلوبة لإدارة الحكم بنجاح في جميع مستويات الحياة العامة.
ألا نتذكر كيف بدا جون كيلي، رئيس الأركان في البيت الأبيض، وكأنه يغطي وجهه شاعراً بالخزي حين قطع ترامب عهداً “بتدمير كوريا الديمقراطية عن بكرة أبيها” في العام الماضي في الأمم المتحدة، ومن يدري، ربما وضع كفه على وجهه ليخفي ضحكاته الساخرة.
وسار الجمهوريون في الكونغرس على الخطا نفسها، حين شاركوا في العديد من الجلسات العامة لتملق ترامب بإغداقه بعبارات المديح والاهتمام التي يعشقها، علماً أن الأغلبية العظمى من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين صوتوا بنعم على أجندة ترامب، بدل أن يقفوا في وجه دوافعه الاستبدادية، ووعوده الانتخابية التي تتعارض مع الدستور.
ولنتجاوز كل هذا للحظة، ونسأل سؤالاً حاسماً حول عصر التملق الحالي في السياسة الأمريكية، فعداك عن جمعه المزيد من الثروة والنفوذ لنفسه ولأولاده ولامبراطورية آل ترامب، ما هي غاية دونالد ترامب النهائية كرئيس؟.. إن كان هدفه هو إبقاء هذا البلد “حصالة للعالم”، فإن كلماته وتهديداته وأفعاله تصب في هذا السياق، ومهما بلغ مدى ازدرائه للتاريخ الذي يبدو أنه لا يعرف عنه شيئاً، فهو يجعل العالم أقل استقراراً، وأكثر تكلفة، ومكاناً يبعث على الخوف، وفي النهاية، من الممكن، على الرغم من الأخبار الاقتصادية المتفائلة الحالية، أن يتمكن من تحطيم هذه الحصالة بنفسه، حيث إن لديه العديد من المشاريع التجارية الخاصة.
ومع ذلك، يعود الفضل إليه في أمر واحد: لقد أعطى دونالد ترامب معنى جديداً لافتاً للعبارة القديمة “الرئاسة الامبراطورية”، وما أمام أعضاء إدارته، وهم في غالبهم مجموعة من الرجال البيض الطاعنين في السن، سوى خيارين: أن يمتثلوا لرغباته الجانحة، أو تتم إقالتهم، بعبارة أخرى، إنه يدير السياسة الداخلية بالطريقة نفسها التي كان يشرف بها على قاعة الاجتماعات في برنامجه التلفزيوني الواقعي “ذي أبرنتس”.
دور وسائل الإعلام
جاء في الحكاية: “وهكذا مضى الامبراطور في موكب محتمياً بظل مظلته البهية، وقال من في الشوارع ومن على النوافذ: “يا الله، ما أجمل ملابس الامبراطور الجديدة! أليست تناسبه إلى حد الكمال؟ يالذيل ردائه الطويل، لم يجرؤ أحد على الاعتراف بأنه لم يستطع رؤية أي شيء، لأنه لو فعل فسيثبت أنه غير ملائم لمنصبه، أو أنه أحمق، لم يلق أي زيّ كان يرتديه الامبراطور قبلاً نجاحاً باهراً كهذا”.
وهذا الكلام ينطبق على حالة ترامب، فمنذ أن تولى الرئاسة، تحولت وسائل الإعلام اليمينية، مثل “فوكس نيوز”، إلى أدوات دعاية بالكامل لصالح الرئيس، بينما أصبح غيرها، كـ “سي إن إن”، و”واشنطن بوست”، و”إن بي سي”، أشواكاً في خاصرة ترامب، يلاحقون بلا هوادة الخلافات داخل أروقة البيت الأبيض، ويستقصون الصراعات الدائرة بين أفراد عائلة الرئيس، لكن لا يخلو الأمر من بعض المداهنة.
لم يحدث قبلاً أن حظي رئيس، أو امبراطور، أو أية شخصية مشهورة، غير ترامب بهذه التغطية الإعلامية الهائلة، وأصبحت تغطية تصريحاته الأكثر فظاعة، وتخصيص وقت لمستشاريه على التلفاز، عاملاً يجذب القراء والمشاهدين، وهذا أمر صب في صالح ترامب وخططه، حسبما قال مسؤول حكومي سابق كان لفترة قصيرة جزءاً من فريق ترامب الانتقالي، ولكنه غادر بعد أن خاب أمله بقدرة ترامب على الحكم.
وحب ترامب للأضواء أجاز له التلاعب في وسائل الإعلام عبر تحويل تركيزها باستمرار من إخفاقاته إلى أفعاله، فكل يوم نسمع عن إقالة جديدة، أو تعيين جديد في البيت الأبيض، وإعصار من التغريدات على تويتر، وتصريح مشين جديد، وكذبة جديدة، والقائمة تطول، ما جعل وسائل الإعلام تلاحق أخبار الرئيس وإخفاقاته بلا كلل، وربما كان هذا هدف ترامب، فقد قال ذلك المسؤول: “كل الأخبار التي تحتوي اسم ترامب هي أخبار جيدة”، وترامب يعتمد على ردة فعل وسائل الإعلام تجاه ما يقوم به، فهذه الإدانات تتيح لترامب وحلفائه أن يعززوا روايتهم بأن وسائل الإعلام تلك تكنّ له العداء، على سبيل المثال، غرد ترامب على تويتر:
“فسرت وسائل الإعلام الكاذبة دعوتي المهاجرين، أو المهاجرين غير الشرعيين، بـ “الحيوانات” على نحو خاطئ، ثم أجبروا صاغرين على التراجع عن قصصهم الملفقة، كان مقصدي من كلمة “حيوانات” أعضاء عصابة “مارا سالفاتروشا”، وهذا فرق كبير، كما أن هذا الوصف يطابق الموصوفين تماماً، تعمدت وسائل الإعلام تفسير هذا الوصف على هذا النحو الخاطئ، كالعادة!”
لا مراء أن مكاسب وسائل الإعلام من تسليط الضوء على ترامب عالية، فقد زادت نسبة المشاهدات والقراءات لحد كبير، واجتذب ذلك مستثمرين جدداً، وعاد الناس يدفعون مقابل الأخبار على الأنترنت، وجمعت وسائل الإعلام السياسية الناشئة الملايين، ولو كانت وسائل الإعلام ترغب بمحاسبة ترامب كرئيس، لكانت ركزت على افتقاره للحكم الرشيد، وعلى الميزانية الاتحادية، وعلى تكلفة الجدار الحدودي مع المكسيك، وعلى تأمين الوظائف في الولايات المتحدة.
كيف ستنتهي حكاية ترامب؟
“وصاح طفل قائلاً: لكنه لا يرتدي شيئاً، فقال والده: هلا استمعتم لصوت هذا الطفل البريء، فهمس البعض للآخر: إنه لا يرتدي شيئاً، وهتف الجميع: إنه لا يرتدي شيئاً.
ارتعد الامبراطور لأنه أدرك أنهم على صواب، لكنه قال في خلده: لابد لهذا الموكب أن يستمر، ثم تصرف على نحو أشد تكبراً، يتبعه الخدم الذين يحملون ذيل الرداء الذي لم يكن موجوداً على الإطلاق!”
هل سيجرؤ أحد داخل البيت الأبيض، أو أيّ من الجمهوريين في الكونغرس، على إيقاف موكب ترامب وإخباره بأنه فاشل كزعيم للولايات المتحدة؟ حتى الآن، يبدو ذلك مستبعداً، فمجلس النواب هو الهيئة الحكومية الرئيسية التي يمكنها أن تبدأ عملية إقالة رئيس الولايات المتحدة، ولكن لا يمكننا أن ننسى عندما قرر قادتها إجراء تحقيق في الـ “اف بي آي” على خلفية التحقيق في قضية التدخل الروسي المزعوم في انتخابات عام 2016، إرضاء لترامب وحسب.
وحتى لو قرروا التدخل، فإن شيئاً سيئاً يحدث عندما يدركون أنهم وضعوا أنفسهم بورطة كبيرة، كما كتب ويليام جورج، وهو عضو في كلية هارفارد للأعمال: “سيصابون بالارتياب من أن شخصاً آخر سيحاول إبعادهم عن مناصبهم بالطريقة نفسها، أو سيساورهم القلق من أنهم غير جديرين كفاية لهذا العمل”، ودفاعاً عن أنفسهم، سيقنعون أنفسهم وغيرهم بأن لا ذنب لهم بهذه المشكلات، ولا هي من مسؤولياتهم، أو سيبحثون عن أكباش فداء ليلقوا اللوم عليهم، وباستخدام سلطاتهم وجاذبيتهم ومهاراتهم في التواصل، سيجبرون الناس على قبول هذه القبائح، ما سيفقدهم الاتصال بالواقع.
ومثلما قرر الامبراطور العاري أن يواصل مسيرة الموكب، بوسع ترامب أن يتشبّث بمطالبه بالتملق والتزلف على حساب السياسة الخارجية والداخلية، وأن يتشبث بأسلوب الأرض المحروقة في التعامل مع أي شخص يطعن في الصورة التي رسمها عن نفسه.
وحاله كحال معظم الزعماء الذين يواجهون معضلات فلسفية بصورة رتيبة، فهل يستحق العالم الذي تُطوّق فيه جدران من كل نوع الحدود الأمريكية أن يكون غاية يسعى نحوها؟ وماذا سيتبقى في المستقبل في وجود نظام اقتصادي دولي مجزأ تشوبه تعريفات جمركية ثأرية، وقيود على السفر، وفرط قومي؟ وفي النهاية، كيف سيؤثر هكذا عالم على الناس العاديين؟.
لذلك، إن الدرس الذي يبدو أن الأمريكيين بحاجة لتعلمه هو أن الحاكم الذي يحيط نفسه بالمتملقين الأذلاء سينتهي به الأمر عارياً أمام الملأ، وترامب حاكم لا يتجاوز شدة غروره سوى شدة جهله، الأمر الذي سيعميه عن تغيير مساره الذي سيودي به إلى تلك النهاية الحتمية!.