يا دجلة الخير (4)
د. نضال الصالح
أصرّ سامي على اصطحابي إلى أقرب عيادة طبيب، أو مشفى، وكان على حقّ لأنّ حرارتي كانت تزداد طيشاً، وحمدتُ السماء أنّه لم يسألني عن قصدي بالقول: “ولو أنّك تعرف بمَن جُننت يا سامي! لو!”، ولو سأل، فلربّما ما كنت ترددتُ في الجهر باسمها، بخوخ خائها، وبما تبقى من جنائن اسمها، وما كنتُ توقفتُ عن الصداح ملء الفضاء حولي، حتى ترهف الملائكة آذانها في أعلى سماء لترتيلي: “خزامى”، ثمّ تشاركني رقصة الحلول بالمطلق، شأنَ مولوي بلغ مقام الوجد، فأنشدَ ما كان ابن الفارض أنشدَ: “زِدْني بفرْطِ الحبّ فيكَ تحيّرا..”، ثمّ ما يكاد يكمل: “وإذا سألتُكَ أن أراكَ حقيقةً، فاسمحْ ولا تجعل جوابي لن ترى”، حتى ينهمر نورٌ من الجهات كلّها، ومن النور صوت يردّد فيما يشبه التلاوة: “وبشّرِ الصابرين”.
ازدادت قبضة سامي إحكاماً على ساعدي، فاستعدتُ: “دعْ خزامى تمضي وشأنها يا صديقي”، فاستعاد: “لا بدّ أنّك جُننتَ”، ثمّ: “أين الرسالة يا شاعر؟”، فرددت لازمتي: “بين يديك”، ولم أكد أكمل كاف اليدين، حتى هصرَ ساعدي بما تستطيع قبضته من قوّة، وقال: “أقسم إنك جُننت”. ولم يكن بحاجة ليقسم، فالليلة التي أمضيتها وأنا أحاول كتابة الرسالة باسمه إلى خزامى تقول ذلك، تقول إنني عدتُ طفلاً لا يتقن من اللغة شيئاً، ولا أعرف من مفردات سوى اسم خزامى، سوى العباءة، سوى القدّ الأهيف الذي تحتها، سوى تلك الملامح التي تستجمع فتنة نساء سومر وآكاد وآشور و… سوى كلمة واحدة: “خزامى”، أتفنّن في رسم حروفها فوق بياض الورق، وأنا أردّد لنفسي قول شيخي ابن الفارض: “ما بينَ مُعتركِ الأحداقِ والمُهجِ .. أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حرَجِ”.
لم تستجب خزامى لما تمنّى سامي عليها، أي أن تبقى في دمشق، ثم ترتبط به، بل غادرت مع أسرتها إلى بغداد، ولم يكد شهر يمضي على سفرها، حتى اتخذ سامي قراراً بمغادرة دمشق إلى جهة لم يفصح لي عنها، بل لم يكلف نفسه عناء وداعي، وعرفت بسفره من رسالة له على بريدي الإلكتروني من بريده نفسه الذي كان يرسل محاولاته الشعرية من خلاله إليّ، ولذلك لم أستطع معرفة الجهة التي سافر إليها، ثمّ انقطعت أخباره عني بعد تلك الرسالة، وعلى نحو أدقّ إلى ما بعد نحو سنة، وعلى نحو أكثر دقّة إلى اليوم الذي قرأت فيه على أحد المواقع الإلكترونية اسمه بين مجموعة من أسماء المقاتلين العرب الذين استشهدوا وهم يتصدون للدبابات الأمريكية وهي تحاول اقتحام مطار بغداد. أمّا خزامى، فلم أعرف أيّ شيء عنها بعد ذلك اليوم الذي جمعنا نحن الثلاثة، سامي وهي وأنا، أي قبل يوم واحد من سفرها وأسرتها إلى بغداد.
أعدت قراءة الرسالة التي وصلتني عبر “الواتس” غير مرة، والتي لم تكن تزيد على كلمتين: “الله بالخير”.. (يتبع)