في حسبة الأولويات المحميات الطبيعية.. خطط للتوظيف التنموي والاقتصادي والحماية البيئية.. وتعديات باسم التوسع الاستثماري
فرضت الأضرار والتعديات الجائرة التي لحقت بغاباتنا خلال السنوات الماضية أساليب واشتراطات ومحددات للحفاظ على غطائنا الحراجي الذي لا تتجاوز نسبته سوى 2% من إجمالي مساحة قطرنا، ما يعكس محدودية انتشاره إذا ما قورن بالرقعة الزراعية، ولذلك فإن تواضع نطاقنا الحراجي، امتداداً واتساعاً، يحسم كلياً أي جدل حول تغليب الأهمية البيئية على القيمة الاقتصادية والإنتاجية للغابات بفارق كبير لصالح الطابع البيئي، لأنه يستحيل تعويضه واستدراكه في المدى الزمني المنظور، على العكس من القيمة الاقتصادية والإنتاجية التي تتعدد مسارات تحقيقها والحصول عليها من مشروعات وبدائل كثيرة، وبالرغم من هذا التباين المحسوم، تخطيطاً ودراسة وتأهيلاً، في كل برامج تنمية الثروة الحراجية، فإن القيمة الاقتصادية لم تسقط مطلقاً من حسابات إدارة وتقييم وتنمية الغطاء الحراجي، وذلك بعد إجراء معاينة، وفلترة، وبلورة الأولويات كلها، والتثبّت منها بيئياً، وحيوياً، وتنموياً، وعلى هذا فإن الاعتقاد بأن الحد من التوسع بالأصناف الحراجية الطبيعية، ومنها الصنوبرية، بات ضرورة وقائية، ليس صحيحاً وصائباً، كما أنه ليس وارداً ولا متاحاً بأي شكل من الأشكال لاعتبارات كثيرة يفصح عنها القائمون على حماية وتنمية وتأهيل الغطاء الحراجي.
أصناف بطيئة الاشتعال
ويكمن تكريس البعد البيئي الطبيعي في خطط التحريج والتشجير من خلال التوسع بالنباتات الصنوبرية، والأصناف عريضات الأوراق المقاومة للاشتعال والاحتراق أكثر من غيرها، وأوضح المهندس باسم دوبا، رئيس دائرة الحراج والغابات في مديرية زراعة اللاذقية، بأن بنية النباتات عريضات الأوراق أكثر مقاومة للاشتعال من النباتات الصنوبرية، وأنه بالنسبة للمواقع الحراجية المحروقة والمتضررة التي يعاد تأهيلها وتحريجها، يتم الميل بشكل واضح نحو اعتماد الأصناف الحراجية عريضات الأوراق، خصوصاً على جوانب الطرق الحراجية وخطوط النار، ويبيّن دوبا بأن الخرنوب هو النبات الأكثر مقاومة للحرائق كونه غير قابل للاشتعال السريع، قياساً مع نباتات أخرى، إضافة لوجود نباتات كثيرة عريضات الأوراق كالسنديان، والبلوط، والعذر، وهناك أنواع نباتية مرافقة لهذه الأصناف، وهي أنواع شجيرية مثل الزورد، والغار، والآس، وتعد نباتات طبقة ثانية لا تصل إلى علو الأشجار الحراجية الرئيسية، وأوضح بأنه ليس من المستحسن والمفضّل التقليل من النباتات الصنوبرية، بل يمكن التوجه نحو عريضات الأوراق على جوانب الطرقات، لأن وجودها يسهّل كثيراً على فرق وعمال الإطفاء الدخول السريع إلى الغابات عند نشوب الحرائق، إذ تستغرق وقتاً أطول للاشتعال، حيث تعيق عريضات الأوراق تقدم وزحف نيران الحرائق، ما يسهم في السيطرة على بؤرة الحريق وإخمادها قبل انتقالها إلى مواقع مجاورة لبؤرة الاشتعال.
اشتراطات وضوابط
وأشار المهندس دوبا إلى الزيادة المستمرة الحاصلة في خطة إنتاج غراس النباتات الحراجية عريضات الأوراق بنسبة عالية ومضاعفة، ففي عام 2009 بلغت خطة إنتاج دائرة الحراج في مديرية زراعة اللاذقية 5 آلاف غرسة خرنوب، و5 آلاف من الغار، في حين يتخطى العدد الكلي لنبات الخرنوب والغار أكثر من 150 ألف غرسة، وهذا الإنتاج يصب في خطط وبرامج تأهيل المواقع الحراجية التي تعدّ مقاصد للتنزه، والسياحة البيئية، ويؤكد دوبا أن الغابات ليست أماكن يمنع الاقتراب منها والدخول إليها كما هو سائد باعتقاد البعض ممن لديهم نظرة تقليدية نمطية مبالغ بها حيال الغابات التي لا يمنع دخول أي شخص إليها، وإنما يتاح الدخول الواعي والمسؤول إلى الغابة عبر مراقبة وضبط السلوكيات والممارسات الجائرة والضارة بالغطاء الحراجي مهما كانت دواعي ومبررات الدخول إلى الغابات، سواء كان هذا الدخول لأجل الاستثمار المدروس، أو للتنزه والاصطياف والاستجمام.
أصناف إنتاجية
ويضيف دوبا: المساحة الإجمالية للغابات السورية لا تشكّل سوى 2% من مساحة القطر، أي أن هناك نسبة 98% غير حراجية، وهذه كافية ومتاحة للإنتاج والاستثمار الاقتصادي، أما المساحات الحراجية فلا يمكن التعويل على استثمارها إنتاجياً حفاظاً على تنوعها واستمرارها وانتشارها، لاسيما أن جدواها الاقتصادية تبقى محدودة بحكم مساحتها مهما تعددت وتطورت أساليب استثمارها، مع أن الغطاء الحراجي يحوي بطبيعة الحال أصنافاً إنتاجية طبيعية بالغة الأهمية الاقتصادية والقيمة الإنتاجية مثل الصنوبر الثمري، والغار، كما أنه في الوقت نفسه يجري البحث بشكل دائم ومستمر عن تطوير الجانب الإنتاجي رغم الأولوية المطلقة للجانب البيئي في مجمل الخطط والبرامج.
الأهمية البيئية محسومة كلياً
وأوضح دوبا بأن مديرية زراعة اللاذقية تنتج سنوياً ما بين 100 ألف إلى 300 ألف غرسة حراجية من الصنوبر الثمري، والغار، وغيرهما من أصناف ذات قيمة إنتاجية واقتصادية عالية، ثماراً، وأوراقاً، وزيتاً، ورحيقاً، حيث يجري أيضاً التوسع بزراعة النباتات الرحيقية التي تشكّل مراعي واسعة لتربية النحل، وتلبية احتياجات النحّالين المربين، بما ينعكس إيجاباً وتزايداً على إنتاج العسل، وفي موازاة ذلك فإن التوسع بزراعة نبات السمّاق ملحوظ في الدراسات الحراجية، والخطط المستقبلية للقطاع الحراجي، لأن هذا النبات ذو قيمة اقتصادية للمجتمع المحلي، كما أنه ذو طابع إنتاجي مميز، وهذه الأصناف من التوجهات المطروحة إنتاجياً، إلا أنه، يؤكد دوبا، بأنه من غير المنطقي والموضوعي الاعتقاد أو التصوّر بأن التحوّل إلى الأصناف الإنتاجية دون الطبيعية ضرورة وأولوية، لأنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال استبعاد الأصناف والنباتات الطبيعية لمجرد أنها ليست أصنافاً إنتاجية، أو لأنها نباتات غير اقتصادية، مبيّناً أن هذه المسألة محسومة تماماً لصالح دعم وتعزيز انتشار النباتات الحراجية الطبيعية، بصرف النظر نهائياً عن أية جدوى اقتصادية، أو إنتاجية، أو استثمارية.
محددات وأسس
ويبيّن رئيس دائرة الغابات والحراج بأن الغطاء الحراجي لا يكبح ولا يمنع التوسع الاستثماري في المناطق والمساحات والمواقع المحاذية له والمحيطة به، لأن قانون الحراج الجديد واضح في هذا المجال، حيث يحدد بكل دقة ووضوح حرم الغطاء الحراجي، وماهية وطبيعة المنشآت المسموح بها، والمسافة التي يجب أن تفصلها عن حرم الحراج، وهي 35 متراً تفصل أية منشأة أو مشروع عن الغابة، وذلك بهدف حماية الغابات، ولتكون بمنأى عن التأثيرات الناجمة عن أية منشأة، لأن الغابات هي أساس المخزون المائي، وأساس التنوع الحيوي الطبيعي، ولأن الغابات تؤدي دوراً أساسياً في حماية التربة من الانجراف، وعلى الأخص في المناطق الجبلية، ومن أجل الحفاظ على الغطاء الحراجي، فقد حدد قانون الحراج ماهية وطبيعة ونوعية المنشآت المسموح بإقامتها في المناطق ذات الطبيعة الحراجية، بما يحقق الاشتراطات البيئية والتنموية.
حماية الثروة الحراجية
ويشير دوبا إلى أن قانون الحراج الجديد ينص في المادة 14 من فصله السابع على أن حراج الدولة ثروة وطنية يجب حمايتها وتنميتها، وذلك من خلال منع تمليك أو تأجير أراضي حراج الدولة مهما كانت الأسباب، سواء أكانت مسجّلة باسم الدولة أم غير مسجّلة، كما يمنع تمليك أو تأجير أراضي الحراج المحروقة، أو التي تتعرّض للحريق أياً كانت أسباب الحريق، سواء أكانت مسجّلة باسم الدولة أم غير مسجّلة، ويعاد تحريجها فوراً بعد وضع إشارة حريق على الصحيفة العقارية الخاصة بالعقار المحروق، كما يمنع إنشاء أو تبديل أي حق عيني على أراضي حراج الدولة باستثناء تبديل مواقع حقوق الارتفاق بالمرور، بما يناسب مصلحة الحراج وفق القوانين والأنظمة النافذة، وأيضاً يقضي قانون الحراج بمنع نقل ملكية حراج الدولة إلى الوحدات الإدارية، أياً كانت الأسباب، بما في ذلك إدخالها ضمن المخططات التنظيمية لتلك الوحدات الإدارية، إلا بقرار من مجلس الوزراء، بناء على اقتراح من وزير الزراعة، ولضرورات المصلحة العامة، ويمنع بموجب قانون الحراج حرث أو كسر أي من أراضي حراج الدولة، أو أراضي أملاك الدولة الواقعة داخلها، كما يتم منع رعي الماعز والابل والأخلاف الجديدة الناشئة عن استثمار أو حريق جديد، ومنع تشويه أو قطع أو قلع أشجار حراج الدولة، وعدم إصدار أو تنظيم أي صك يتعلق بحراج الدولة، وغيرها، مما يخضع لأحكام هذا القانون إلا من الوزير، ويمتنع ذلك عن أية جهة أخرى.
المنشآت والمشروعات
ويؤكد القانون بوضوح على منع إقامة منشآت لأية جهة عامة أو خاصة، سواء أكانت شخصاً طبيعياً، أم اعتبارياً داخل حراج الدولة ومناطق الوقاية بشكل مؤقت أو دائم خلافاً للتعليمات التي يصدرها الوزير، وعدم إلقاء الأنقاض، أو النفايات، أو المخلفات الصلبة أو السائلة، أو مكبات القمامة، ومنع تمديد خطوط المياه، أو الكهرباء، أو الهاتف، أو فتح الأقنية أو المجاري إلا بموافقة وزارية، وعدم تعبيد وتزفيت الطرقات الحراجية، عدا ما هو خاص بعمل مديرية الزراعة، إلا بقرار من مجلس الوزراء، ومنع القيام بأي عمل من شأنه الإضرار بحراج الدولة، وقد حدد القانون في المادة 16 منه أسس وشروط إضرام واستخدام النار، وصنع الفحم ضمن وجوار الحراج بقرار من الوزير، ويقع على عاتق الجهات العامة صاحبة الولاية على السكك الحديدية، والطرقات العامة، والطرق الخدمية لمشاريع الري، وأبراج الكهرباء الواقعة داخل مناطق الحراج وحرمها، إزالة الأعشاب والنباتات الحولية الثابتة في مسار وحرم هذه المرافق، بإشراف المديرية، أما ما يخص المنشآت فقد قضى القانون بمنع إنشاء أية منشأة ثابتة مهما كان نوعها وطبيعتها داخل الحراج وحرمها باستثناء المنشآت المسموح بإنشائها بموجب قانون الحراج، كما يمنع إنشاء أية منشأة تسبب نفاياتها الغازية أو السائلة أو الصلبة ضرراً للحراج على مسافة تقل عن 1000 متر من حرم الحراج، كما يمنع إنشاء أية منشأة خدمية، أو صناعية، أو زراعية، أو سياحية غير ضارة بالحراج على مسافة تقل عن 10 أمتار من حرم الحراج، ويتم تصنيف المنشآت من حيث ضررها بالحراج بقرار من الوزير، بالتنسيق مع وزارات الصناعة، والسياحة، والإدارة المحلية والبيئة، ويسمح بإقامة الأبنية السكنية على الأملاك الخاصة المجاورة لحراج الدولة إذا كانت هذه الأبنية واقعة داخل المخططات التنظيمية ووفق نظام ضابطة البناء، على أن تتخذ احتياطات الأمان اللازمة.
دراسة تقييمية
وذكر المهندس دوبا بأن دائرة الحراج والغابات تعتبر أن محمية الفرنلق تشكّل مثالاً حياً لنظام المحميات البيئية الطبيعية على مستوى القطر، ومقصداً للسياحة البيئية الشعبية المعتمدة على الطبيعة، وتدار تشاركياً مع المجتمع المحلي، وتمثّل منطقة نموذجية جغرافياً للأنواع الحيوانية البرية، ومحطة هامة للطيور المهاجرة، مبيّناً أنه في ضوء هذه الأهمية البيئية فقد أنجزت دائرة الحراج الدراسة التقييمية الشاملة لمحمية الفرنلق الطبيعية التي تصنّف واحدة من أهم مواقع التنوع الحيوي البيئي في سورية، حيث أظهرت الدراسات وجود 18 نوعاً من الثدييات في المحمية، و22 نوعاً من الزواحف والبرمائيات، إضافة لكونها موئلاً لحوالي 70 نوعاً من الطيور المهاجرة، كما تم تسجيل 260 نوعاً نباتياً، منها حوالي 65 نباتاً طبياً عطرياً.
مسوحات بيئية شاملة
ولفت دوبا إلى مساهمة محمية الفرنلق في السياحة البيئية بشكل كبير من خلال وضع خطة لإدارة الزوار، وتجهيز البنى التحتية الخاصة بالسياحة البيئية، ومركز تسويق منتجات المجتمع المحلي، وأشار إلى الأضرار التي تعرّضت لها المحمية جراء الاعتداءات الإرهابية التي طالت البنى التحتية، مؤكداً أن نواة المحمية ومركزها ومناطق السياحة البيئية لم تتعرّض لأية حرائق، أما الأضرار فقد تركزت في الغابات الصنوبرية النقية، والبنى التحتية للمرافق العامة، والبنى التحتية الخاصة بالمجتمع المحلي، وبيّن المهندس دوبا أن الخطة المقترحة لإعادة تأهيل المحمية تشمل عدة محاور، أهمها تأهيل البنى التحتية للمحمية، والتنسيق مع جميع الجهات المعنية لإعادة تأهيل البنى التحتية الخاصة بالمجتمع المحلي، ووضع خطة متكاملة لتحريج المواقع المحروقة، ودعمها مادياً، وإعادة تأهيل البنى التحتية الخاصة بالسياحة البيئية، وإجراء مسوحات بيئية واقتصادية جديدة لوضع خطة إدارة جديدة للمحمية تتناسب والواقع الجديد.
تأهيل بيئي
وأشار دوبا إلى أن هذه الأولويات المقترحة لإعادة التأهيل البيئي والخدمي والسياحي تتوازى وتنسجم مع خطة التوظيف التنموي والاقتصادي للمحمية التي تم من خلالها إطلاق مشروعات تنموية واقتصادية تدعم بيئة المحمية، وتعزز تنوعها الحيوي، حيث يسهم تصنيع أي منتج وتسويقه بشكل كبير في حماية التنوع الحيوي، كما الحال بالنسبة لدعم خلايا النحل في حماية المراعي من غابات، ونباتات طبية وعطرية، وكذلك تسويق دبس الخرنوب، ومراكز التوضيب والتسويق للنباتات الطبية والعطرية بشكل مدروس.
مروان حويجة