من وحي التجربة
د. سليم بركات
تعود الظاهرة الحزبية إلى القرن التاسع عشر على مستوى العالم، وإلى النصف الأول من القرن العشرين على مستوى الوطن العربي، وعلى وجه الخصوص في سورية ومصر، وهي ظاهرة ترافقت مع انتشار الأفكار الاجتماعية المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وكانت أفكاراً أنزلت العملية السياسية من برجها النخبوي المغلق إلى القاعدة الشعبية الجماهيرية العريضة ما كان له أشدّ التأثير في الحياة العربية التي كانت ومازالت تعاني الاضطهاد والأطماع الاستعمارية.
حزب البعث العربي الاشتراكي واحد من هذه الأحزاب التي شهدتها الساحة العربية، ولكنه يختلف عنها بمضامينه النضالية الجادّة الساعية نحو بناء الدولة العربية الواحدة،؛ وهو حزب قومي فكراً وتنظيماً وممارسة، لا يعرف للعرب وجوداً خارج وجودهم القومي، الأمر الذي جعل من انتشاره انتمائيا طوعيا على الساحة العربية، وفي كل مكان يوجد فيه عرب.
في هذا الإطار، تكونت مبادئ وأهداف الحزب، وبما يتناسب وظروف الساحة العربية التي تستدعيها كل مرحلة من المراحل النضالية في الحياة العربية، وفي الطليعة المرحلة الراهنة التي تتطلب، أكثر ما تتطلب، تأكيد الحزب للجماهير العربية بأن ثورته التي انطلقت من سورية في آذار 1963، والتي تعززت بالحركة التصحيحية المباركة بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد، هي ثورتهم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهي ثورة ماضية في الصمود والبناء المتطور المتكامل في هدي من فكر الحزب ونظريته القومية العروبية الثورية.
من هذا المنطلق يكون الدخول إلى جوهر التجربة الحزبية قبل نقدها، لأنه دخول لتجربة بشرية ليس من السهل قياسها، كونها متحركة، متجددة، فيها العواطف والمشاعر، وفيها المزاج والانفعال، وفيها المعرفة والوعي، وفيها القدرات والإمكانيات؛ تجربة لها عالمها الخاص الذي تعرف به وتتميز فيه، عطاء وإبداعاً، تأثيراً وتأثراً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؛ تجربة تستدعي العقلانية المعززة لنقد التجربة، لا لشيء إلا لأن هذا النقد سيكون في إطار الحركة الدائبة والمستمرة والمتجددة التي يعيشها “البعث” ردة فعل وتطوير فعل، وهذا لا يكون إلا من خلال الموضوعية والعقلانية المدعّمة بالمعلومات، كما لا يكون إلا من خلال سبر أغوار المناضلين، والتعايش مع قضاياهم، ومشاركتهم هذه القضايا؛ ولما كانت الشجاعة والبطولة والعبقرية والرجولة والاستثناء والقيادة هي الشغل الشاغل للمناضلين، فلابد من أن تحيط بهذه المواصفات أقلام الجادّين ممن يهمهم سطوع الحقيقة؛ وبما أنّ نقد التجربة ضرورة تفرضها الظروف، فعلى الحزب أن يعي هذه الضرورة، ليضعها على رأس جدول أعمال مؤتمراته، يحاور فيها بعمق، وبمنتهى الحرية، حتى لا تظهر الأخطاء صواباً، ويظهر التقصير عطاء، والظلم عدلا، وحتى لا تطوى صفحات مشرفة كي تظهر صفحات مزورة.
إنّ التقويم الموضوعي للتجارب التاريخية لا يعني التشهير والتجريح، وإنما العقلانية وموضوعية النقد، لأنّ من نتحدث عنهم هم آباؤنا وأجدادنا، وأبناء أمتنا، وما نحن إلا أحفادهم في مسيرة واحدة، الأمر الذي يقتضي إظهار الحقيقة كي تستفيد الأجيال الحالية من تجارب السلف، أكان ذلك خطأ أم صوابا، وكي نعلم أبناءنا التعامل بشفافية ونحن نشير إلى الأخطاء والمخطئين، وإلى الصواب والمصيبين، ففي الشفافية والوضوح يمكن بناء الإنسان البناء الصحيح.
وسورية اليوم ليست بملايينها الذين يعيشون فيها، وإنما هي القلب النابض لكل ملايين العرب من المحيط إلى الخليج.. إنها العقل الواعي الملتزم، والإرادة الحرة الصامدة التي تدافع عن العرب وتعمل من أجلهم، وجيشها الباسل لا يخوض المعركة في مواجهة المشروع الامبريالي الصهيوني الرجعي الإرهابي ليدافع عن سورية فقط وإنما ليدافع عنها وعن الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وما كانت مطالب سورية “البعث” مطالب قطرية، في يوم من الأيام، وإنما كانت مطالب قومية وحدوية، رائدها حرية العرب وكرامتهم.
عندما أعلن القائد المؤسس حافظ الأسد التعددية السياسية، ما كان إعلانه انسجاما مع دعوة النظام العالمي الجديد، وإنما كان إعلانا دعت إليه الحركة التصحيحية المباركة، منذ عام 1970، الأحزاب السياسية المتصارعة مع بعضها بعضا؛ وما ضاق القائد المؤسس ذرعا بهذه الأحزاب، وإنما عبّر عن حرصه عليها، والثقة بها، واحترم قناعاتها وتاريخها، وعزز موقعها بالاعتراف بها، وهو ما دعاها إلى الحوار الحر مع حزب البعث العربي الاشتراكي بعد أن أقنعها بالحوار، ورغبها فيه، كي تقدم تصوراتها للحاضر والمستقبل، ولقد استمر بالحوار معها، وكان الصادق الصدوق، حتى أزيل الكثير من التناقضات والتحفظات.
وحتى لا يختلط الحابل بالنابل من خلال نقد التجربة، لابد من التمييز بين دور الحزب في السلطة، وبين دور الحزب في القيادة، ففي القيادة قضية ونضال وجماهير ومواقف، وفي السلطة تنظيم المجتمع وسيادة الدولة، وشتان بين الدورين. القيادة شيء، والسلطة شيء آخر؛ القيادة استثناء ينمي قدرات الشعوب نحو الجديد في نفسيتها وفكرها ومجمل حياتها، وهي تأتي من خلال الموقف والدور وبواسطة الجماهير، أما السلطة فتأتي من خلال القوانين والدساتير المرعية التي لا تطلب من الحاكم، رئيسا كان أم ملكا أم أميرا، أن يصنع المعجزات؛ وإذا كان هدف الحاكم السلطة فإن هدف القائد الرسالة، ليكون المنصب في خدمة القضية لا القضية في خدمة المنصب؛ وفي ظاهرة الحكم تسبق الشعوب حكامها بالمطالب الوطنية والاجتماعية والقومية، أما في القيادة التاريخية فالقادة يسبقون الشعوب بالمطالبة بالحقوق، وبتلبية هذه المطالب، وإذا كان الحاكم يعيش مسؤوليات الحكم، فإنّ القائد يعيش طموحات الجماهير وتطلعاتها، ويمثل أمانيها ورغباتها.
القضايا هي أهم الحدود الفاصلة بين القادة والحكام، ولا قيادة دون قضية تدعو إليها وتحملها وتناضل من أجلها، الأمر الذي يتطلب أداء الأمانة بالوفاء لها، أكان هذا الوفاء للقضية ذاتها، أم كان هذا الوفاء لرمز هذه القضية. وكيف لا يكون الوفاء لرمز القيادة، وهذا الصمود الزاخر بالعطاء والإبداع الذي أوجدته سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد في مواجهة التحالف الأمريكي الإسرائيلي الرجعي الإرهابي. لقد أعطت سورية للحقيقة قدسيّتها وطهارتها من موقع الصمود، ومن خلال الكلمة الصادقة التي تمكّن الحياة من أن تحفر مجراها في ذاكرة التاريخ. لقد أصبحت مواقف سورية وانتصاراتها البطولية في ضمير ووجدان كل عربي، وهذه حقيقة لازمت سورية البعث عبر التاريخ، منذ التأسيس وحتى يومنا هذا.. مواقف جاءت نتيجة مخاض طويل لتلعب بزخم لا مثيل له دور الحركة الجماهيرية التفاعلية العروبية على المسرح العربي والعالمي.. دور تتحسس فيه ثورة البعث أهداف الشعب وآماله، وهي تذكي فيه روح التمرد على واقع فاسد وتخلف موروث، منيرة طريق التحرر، مفجرة الطاقات العربية العربية من أجل مستقبل أفضل.