لنعد لها الحياة المناطق المحررة.. تباطؤ في إعادة السكان إليها.. وإجراءات لتفعيل النشاط الاقتصادي فيها
كثرت المناشدات التي تطالب بإعادة المواطنين المهجّرين من المناطق الشرقية والشمالية، والمقيمين في دمشق وضواحيها، إلى مدنهم وقراهم بعد أن عاد الأمن إليها، خاصة بعد أن أصبحوا يشكّلون عبئاً حقيقياً على السكان الأصليين للمناطق الآمنة التي نزحوا إليها خلال سنوات الأزمة، ولكن على ما يبدو اعتاد سكان تلك المناطق على حياة المدن والرفاهية التي أعجبتهم لدرجة قرروا الاستقرار في المدن، ليرتفع الصوت المطالب بإيجاد قرار لعودة هؤلاء المهجّرين إلى بلداتهم.
تفرعت عن الأزمة عدة أزمات كانت أبرزها الأزمة السكانية التي انعكست على جميع المناحي، حيث تركزت الكثافة السكانية في مناطق معينة لتخلق أزمات كبرى، ابتداء من أزمات السكن، وانتهاء بأزمة النقل، فشكّل وجود هذا التجمع السكاني الكثيف في عدد من المدن ضغوطاً نفسية، واجتماعية، واقتصادية كبيرة، وفي المقابل وجد بهم أصحاب المكاتب العقارية والمحال التجارية مصدر رزق لهم، باعتبار سكان تلك المناطق من السكان الذين يملكون مخزوناً مالياً سابقاً، ما أضرم النار في نفوس التجار وأصحاب النفوس الجشعة لاستغلال وجودهم، ورفع الأسعار، وبعد المناشدات الكثيرة من المواطنين لأصحاب القرار، وجد البعض استجابة من قبل بعض البلديات في الضواحي التي رفضت تجديد عقود الكثير من المستأجرين ممن لم يبق لوجودهم مبرر بعد أن أصبح باستطاعتهم العودة لمناطقهم الأصلية، ولكن مع ذلك لم نسمع بأحد قرر العودة إلى منطقته، بل على العكس زاد إصراره على البقاء في هذه المناطق المترفة بالنسبة له.
بيانات وأرقام
تشير تقديرات المكتب المركزي للإحصاء الخاصة بعدد السكان الموجودين بسورية إلى أن دمشق استقبلت بنهاية عام 2016 ما يقارب من 862 ألف نازح، لتأتي بذلك في المرتبة الثانية بعد ريف دمشق في استقبال النازحين الذين بلغ عددهم على مستوى سورية نحو 5,241 ملايين نازح، ولم تكن دمشق المحافظة الأكبر بعدد سكانها قبل الأزمة، بل احتلت المركز الرابع عام 2011 بعدد السكان بعد محافظات: حلب، وريف دمشق، وحمص، ومع استمرار الأزمة احتلت دمشق المرتبة السادسة بعدد السكان نتيجة الانزياحات التي شهدتها كباقي المحافظات، والتي أثرت على التركيبة السكانية للعاصمة، وخصائصها الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وتظهر البيانات أن النازحين إلى العاصمة أصبحوا يشكّلون كتلة لابأس بها من سكان العاصمة (نحو 31%)، حيث قدرت البيانات المذكورة عدد سكان العاصمة في عام 2015 بنحو 1,862 مليون شخص، منهم 1,277 مليون شخص صنفوا على أنهم مستقرون مكانياً، و585 ألف شخص نزحوا إليها خلال فترة الحرب من نحو 12 محافظة، إلا أن القسم الأكبر منهم، وهم بحدود 46%، جاؤوا من أحياء العاصمة الساخنة، ونحو 29% تقريباً من ريف دمشق، وإضافة لذلك فإن عدد النازحين منها وإليها كان شبه متقارب، فإلى جانب نزوح نحو 265 ألف شخص من العاصمة، هناك ما يقرب من 121 ألف دمشقي اختاروا طريق اللجوء، وكانت وجهتهم المفضلة في ذلك إلى دول رئيسية في المنطقة أهمها مصر، لبنان، حيث غادر دمشق في السنوات الأربع الأولى من عمر الحرب نحو 520 ألفاً من سكانها، أي ما يقرب من ثلث سكانها.
حيل للبقاء
من الأمر المفروض الآن إعادة النظر في الخريطة الديمغرافية من جديد، ودراستها بشكل حقيقي، حيث تسببت الأزمة، ونزوح السكان من المناطق الساخنة، وتمركزهم بالمدن الآمنة، وعدم رغبتهم بترك هذه المدن بعد انتهاء الحرب في مناطقهم، بآثار اقتصادية كبيرة، برأي محمد كوسا “خبير اقتصادي”: أولها أن التجمعات في هذه المدن فرغت المناطق التي أعادت الدولة لها الأمن من العمالة، والتي هي الآن بأمس الحاجة لها لإعادة الحياة بمختلف مناحيها لهذه المناطق من خلال الإقلاع بمشاريع زراعية، أو صناعية ولو بالحدود الدنيا، والعنصر البشري هو الأهم في هذه العملية، لكن هذه الشريحة من الناس شعرت بالرخاء، والتسهيلات المقدمة لهم، والواقع المريح الذي استسهلوا العيش ضمنه، ما جعل فكرة العودة إلى مناطقهم بعيدة كل البعد عن تفكيرهم، وما لا يمكن تجاهله تسبب هذه الشريحة بضغوط هائلة، وبازدحام على السلع والخدمات، لا يقابلها إنتاج حقيقي، وأكد كوسا في حديثه معنا على امتناع الكثير من بلديات الضواحي والمناطق الشعبية عن تجديد عقود أهالي المناطق الشرقية، لكن أصحاب المكاتب العقارية وجدوا حيلاً مختلفة لتجديد العقود، منها إعطاء رشاوى لأشخاص يسجلون العقود بأسماء بديلة عن هؤلاء الأهالي، الأمر الذي بات يتطلب متابعة حثيثة، وإجراءات صارمة من قبل مختلف الوزارات، خاصة وزارة التربية التي تستطيع نقل أوراق تلك المناطق إلى مدارسهم الأساسية، والهدف الأساسي من هذه العملية هو عودة الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والإنتاجية لتلك المناطق بعد أن عادت شرايين النقل إليها، وسخّرت الدولة إمكانات مادية هائلة لتجهيزها بالخدمات كي يعود إليها الأهالي المنتجون، بما يحقق عائداً اقتصادياً كالسابق، لكنهم رفضوا، ليحققوا في المحافظات التي استقروا بها، وخاصة دمشق، زيادة في الطلب لا في الإنتاج.
إعادة توزيع
ولأن أي اقتصاد يحتاج كي ينهض من جديد إلى علاقات اقتصادية، وتشابك هذه العلاقات في المناطق الجغرافية، ما يستدعي بالضرورة، وحسب رأي أيمن ديوب، “دكتور في كلية الاقتصاد”، عودة السكان إلى مناطقهم بعد استقرار تلك المناطق، وإعادة الدولة الحياة بها، فالاقتصاد يبنى على التنوع في المواقع الإنتاجية، ويحتاج لكل أنواع المنتجات، وفي حال بقاء السكان في عدد محدد من المحافظات ستبقى الأنشطة الاقتصادية محدودة، وأكد ديوب على أن المنتجات التي كانت تأتي من مناطق دير الزور، والرقة، والحسكة، “خزان الغذاء السوري”، بتنا نستوردها خلال الأزمة، ولكن رغم عودة الاستقرار لهذه المناطق منذ فترة، إلا أننا مازلنا نستورد تلك المنتجات من الخارج، وهذا أمر خاطئ، لذا لابد من إعادة اليد العاملة إلى تلك المناطق، فالميزان التجاري السوري مختل حالياً، ولكي يتوازن لابد من إعادة توزيع السكان بالشكل السابق لسنوات الأزمة.
ضرورة التوازن السكاني
الدكتور أكرم القش، “رئيس الهيئة السورية لشؤون الأسرة”، وجد أن الأزمة ليست هي من خلق الأزمة السكانية، لأنها كانت موجودة في السابق، فالسنوات السابقة للأزمة شهدت نمواً سكانياً مرتفعاً، رافقه عدم توازن مع الإمكانات الخدمية والاقتصادية الموجودة، كذلك لم تتوقف في تلك السنوات حركات النزوح والهجرة من الأرياف إلى المدن، وما تركته من آثار سلبية، ومن اختلال في التوازن الديمغرافي في البلد ككل، لتأتي الأزمة وتتفاقم المشكلة السكانية معها من خلال خلقها للهجرة خارج البلد، والهجرة الداخلية، ومنعكساتها الخطيرة أيضاً على جميع النواحي، حيث عمّقت الخلل في مجمل الخصائص، فربع السكان خارج سكنهم الأصلي، وثلث سكان سورية نزحوا إلى محافظات أخرى، ما سبب زيادة الضغط على الخدمات، وارتفاع الأسعار، وتفاقم مستويات البطالة، والمستوى المعيشي، ولكن اليوم مع عودة الأمان لأغلب مناطق سورية، يقوم المكتب المركزي للإحصاء حالياً بمسح دقيق لعدد السكان، خاصة بعد عودة قسم ممن هاجروا إلى الخارج، وتعمل الجهات المسؤولة على إعادة مهجّري الداخل إلى مناطقهم لإعادة تحقيق التوازن السكاني، وأكد القش أن معدل النمو السكاني تراجع بسبب الهجرة الطارئة، أما حجم السكان السوريين الذي يستند إلى الولادات والوفيات فقد ارتفع، ولابد في مرحلة إعادة الإعمار من ربط المسألة السكانية بالسياسة الكلية لمرحلة إعادة الإعمار، ووضع المشاريع والخطط الإنمائية الكفيلة، وتحقيق التوازن بين معدلات النمو الاقتصادي والسكاني، مع ضرورة أن يكون المدخل الديمغرافي من أهم مداخل إعادة الإعمار كي لا نقع بالأزمات نفسها، والمشاكل السابقة.
ضغوط اجتماعية
ولم يقتصر تأثير التوزع السكاني العشوائي خلال السنوات السابقة على الناحية الاقتصادية، بل تعداه ليشمل جميع جوانب الحياة، حيث وجدت رشا شعبان، “علم اجتماع”، أن التأثير الاجتماعي لحركة النزوح لا يقل خطورة عن الأثر الاقتصادي، فالضغوط التي سببها هذا التمركز السكاني في عدد محدد من المدن أثر على الخدمات المقدمة للجميع لعدم وجود إمكانية لسقف العالم الموجودين، وبالتالي فتح باب الفساد في تقديم الخدمات، خاصة في المطاعم، وأسعار الشقق السكنية، وأجور النقل التي فاقت التصوّر خلال السنوات المنصرمة، والتي مازالت مستمرة بالرغم من حتمية عودة السكان المهجّرين قسرياً إلى مناطقهم الأساسية بعد أن استقرت، ولا ننسى الضغوط التي شكّلها هؤلاء على أصحاب الحرف الأساسيين في المناطق المستقطبة لهم، حيث امتهن المهجّرون حرفهم، وباتوا ينافسون أصحاب الحرف الحقيقيين ليأخذوا مكانهم، الأمر الذي استدعى من هؤلاء السكان مطالبة الإدارة المحلية بأن تحصي أعدادهم، ويتم نقلهم إلى مناطقهم وفق خطط ترغيبية، وبطرق غير مباشرة، وأضافت شعبان بأن العادات والتقاليد التي تختلف من منطقة لأخرى خلقت صعوبات لدى السكان الأساسيين في تقبّل عادات وتقاليد المهجّرين، والتي من الصعب أن تلائم المدن المستقطبة، ناهيك عن الضيق الذي سببه وجودهم على اعتبارهم من أصحاب الأموال التي طمع بها أصحاب العقارات والتجار الذين ضاعفوا أسعارهم في المدن التي تمركزوا بها، ما جعل سكانها الأساسيين يضيقون ذرعاً من هذا الوضع، خاصة أن الأمان عاد إلى مناطقهم، وبقوا مصرّين على التمركز في المدن، وأخذ أماكن عمل وإقامة ليسوا الأحق بها!.
ميس بركات