الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

لم يُعرف بعد..!

حسن حميد

أرسل إليّ أحد الأدباء الأصدقاء رسالة تدور معظم أسطرها حول ما كتبته عن الأديب غسان كنفاني، وفيها عتاب شديد فحواه: أما آن للحديث عن غسان كنفاني أن يجفّ؟! أما انتهى، وماذا بقي من حديث عنه لم يقل بعد؟! أنت، والمنتمون إليه، ومحبوه، تكتبون عنه كل عام مرة أو مرتين، حتى بتُّ أشعر أن الكلام حوله، وعنه، بات مكروراً ولا جديد فيه، وأن الدائرة الأدبية والحياتية التي وعاها وعاشها تكاد تغلق تماماً، فما بقي من شيء، حتى النافل منه، لم يقل!
الحق، أن الرسالة هزّتني، لأنها آتية من أديب يعرف ويدرك جيداً أن الحديث عن غسان كنفاني وأمثاله لا ينتهي، قد ينقطع، ولكن لا ينتهي! والشواهد أمامنا كثيرة، فأهل الإبداع والريادة تدور الأحاديث عنهم مثلما تدور الرياح في جنبات الفصول! فلا يظنن أحد من أهل الأدب أن الحديث سينتهي عن شكسبير، أو طاغور، أو دانتي، أو أفلاطون، أو فلوبير، أو دوستويفسكي، أو ماركيز، أو غادة السمان؟! الظنُّ هنا يعني غياب الفطنة، ولا تعريف للفطنة سوى أنها العقل، وهؤلاء أهل الفطنة اشتقوا الدروب ومشوا فيها حين كانت وحيدة موحشة، وهؤلاء بكوا في لياليهم ووحدتهم حين كانت النصوص تتخلق بين أيديهم سطوراً يقارب نورها، جمالاً، نور الفجر، وما من أحد يصفق لهم أو يثني عليهم، بل ما كانوا ينتظرون مثل هذا!
غسان كنفاني! لم ينفد الكلام عنه، ولن ينفد لأنه ما زال، حتى هذه الساعة، في دائرة المجهولية، لا أحد يعرفه المعرفة الحقة، لا أهل بيته يعرفونه تماماً، ولا القراء، ولا الأصدقاء، ولا النقاد يعرفونه تماماً! الرجل عاش ستاً وثلاثين سنة، نصفها أو أزيد قضاها تلميذاً في المدارس، أبوه المحامي لم يعرفه جيداً، وقد صرح بذلك حين قال: لم أعلم بانتساب غسان إلى حركة القوميين العرب، أمه لم تعلم عن تفكيره السياسي شيئاً إلا عندما غدا غسان في مواقع المسؤولية، إخوته لم يعرفوه حق المعرفة، وهكذا هم رفاقه في المدارس التي درّس فيها، ورفاقه في العمل الفدائي مرةً والعمل الإعلامي مرة أخرى، وهكذا هم الأدباء الذين عاصروه، كلهم يتحدثون عنه كلاماً عاماً، بأنه رجل يشبه الطيور في حذره وحركته وفطنته، والذين تعاون معهم في الأنشطة الثقافية في الكويت، وهو ابن عشرين سنة، مثل وليد أبو بكر، وناجي علوش، وخالد أبو خالد، يتحدثون عنه كلاماً عاماً، والذين عمل معهم في الصحافة اللبنانية يفعلون الفعل ذاته، منهم يعرفونه في الشكل، ومن خلال ما يكتبه، يقولون عنه إنه حاذق، ونشيط ورجل متعدد!
غادة السمان الأديبة التي صادقته تحدثت عنه حديثاً عاماً أيضاً، وزوجته الدانماركية (آني) التي ربما عرفته جيداً، لكنها لم تتحدث عنه حديث العارفة، الشاعر علي الجندي الذي عاش في بيته مدة زمنية لم يقدم تعريفاً وافياً عنه!
ونقاده، ومن شهد على فحولته الأدبية، أمثال: د. إحسان عباس، ود. يوسف إدريس، ويوسف سامي اليوسف، ود. فيصل دراج هم أيضاً عرفوه من خلال كتاباته.
رفاقه في العمل السياسي، وما أكثرهم، تحدثوا عنه بعد وفاته، حين باغتهم اغتياله، وكان الحديث قريباً من معنى الاستشهاد، وفيه من العاطفة الكثير.
بلى، أيها الصديق الأديب، ما زال غسان كنفاني غير معروف، كما يليق به، شأنه في ذلك شأن بوشكين، وستيفايج، وبوتزاتي، ودرويش، وجبرا إبراهيم جبرا، والسياب، والمعري، والمتنبي، وبوكاشيو، والفردوسي، وحمزاتوف، وأيتماتوف.. لأن كل واحد من هؤلاء، وأمثالهم ندرة، هم بلاد.. ومن بمقدوره أن يتحدث عن البلاد، أي بلاد، حديث العارف!
Hasanhamid55@yahoo.com