الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

امتلئ بكم حباً؟

د. نهلة عيسى

أقود سيارتي على شريط ساحلي طويل لزيارة الجرحى وذوي الشهداء, كالراكب إلى الوجع, فيتحول الزمن إلى حمامة لاهثة, وتتبدى الحروف عند نطقها هشة مبتذلة, وأبدو أنا بعد سبع سنوات من حرب غير مبررة, وكأني امرأة من فولاذ, لا شيء يكسرها سوى الماس, ولكني حقيقة امرأة من زجاج, لأنه- على ما يبدو- في المسافة ما بين بداية الحرب وما بين الآن, انكسر شيء ما لن يعود أبداً كما كان!؟ أقود سيارتي على الشريط الساحلي الطويل, فأستحيل قارة من ألم زاعق صاخب, لأنني أعرف مسبقاً ماذا سأرى, وأجهل بماذا سأواسي؟ فأتوقف على الشاطئ لأعري جروحي وأستعيد ذاتي المهجورة منذ سبع سنوات, حينما حملت وطني على كتفي وتشردت على كل الجبهات بحثاً عن دواء, فكان جنودنا على الجبهات, هم الدواء, وكنت المباركة بأنني من قلائل وصلوا إلى حيث الشفاء!
أقود سيارتي على الشريط الساحلي الطويل الحزين, والبحر أمامي مدى, وصياد صبور يلملم سنارته, ويحمل إلى البيت دلواً بلا سمك, ومراكب الصيد تحت حر الشمس مقلوبة على ظهورها, كالمسترخي بعد عناء, والنوارس البيض فوق الأمواج تطارد ظلالها, وذكرياتي المقددة, بفعل غزارة ما جرى, تقوم من رقادها, فأتذكر كل الرحلات والضحكات مع أصحاب أصبحوا اليوم ذكريات, لأنني فقدتهم على جبهة من الجبهات, فأسمع صوتي يناديهم: السلام عليكم أيها الشهداء, أنتم الباقون, ونحن الراحلون.
نعم أنتم الباقون, ونحن الراحلون, لأن موتكم لا يمكن أن يشبه موتنا, فهل يستوي الذي يموت في غيلة البحر, أو المرض, أو الحوادث كرهاً, مع من يموت طوعاً, وهو يواجه مرتكبي المجازر, وهادمي البيوت وآكلي الأكباد, وجزازي الرؤوس وسارقي الأحلام والمشاعر والأوطان؟
لا أظن أن موتكم يستوي بموتنا, رغم تشابه النتيجة, لأن الفرق كبير بين موت يطال جميع البشر, وموت قام بإعادة الاعتبار للموت, وحوله من فعل قدري, حتمي, نمطي, إلى حالة أشبه بالتحليق والتعالي فوق كل ما هو معتاد, ومدرك, ومفهوم, ومبرر, ليصبح فعل إرادة, وعبادة وتبتل, وفعل نبل, يخجل أمامه من يموتون, لمجرد أن يومهم قد حان!!
موتكم (رغم مرارته) قضية, لأنكم دافعتم عن بيوتنا وشوارعنا وقلوبنا, وحميتم بدمكم الأمل, بدون كلمات محشورة في رداء الرياء,في وقت كان فيه الوطن ينزف جرحاً تلو الآخر, وجنوناً بعد آخر, وضحية بريئة بعد أخرى, وبينما كان التتار يحاولون تركيع الوطن, ويكممون أفواه وعيون العاشقين له!!
أنتم الباقون, ونحن الراحلون, لأنكم منحتمونا فرصة البقاء في الوطن لنلامس بحنان, الجدران التي نحبها, ولنسير في الشوارع التي ألفناها, ولنتذكر الزمان الذي مضى في الزمان, ولكنه لم يمض من القلب, والأصوات التي همست لنا يوماً, وروائح من رحلوا, ولنتنسم عبير دمائكم, التي أثمرت زهراً وشجراً, تعانقا تحت ضوء الشمس, فولد الفيء, ونحن من نتفيأ!
أيها الراحلون الباقون, على مدار سبع سنوات, هربت من الحرب إلى الحرب, ووضعت رأسي في راجمات الصواريخ, وقضيت أيامي في فوهات المدافع, ورقصت على إيقاع الهاون, واختلط خط نار القلب عندي مع خط نار الحرب, فلم أعرف أي الحواجز أعبر, وخلف أي المتاريس أختبئ, ومناقير الكواسر في عيوني, والعدو صحارى من الرمال المتحركة!؟
أيها الراحلون الباقون, حقاً في هذه الحرب لم أعرف كيف ينجو المرء من الحياة التي تشبه الموت, وما زلت لا أعرف سوى أن داخلي إسفنجة, كلما ازداد تبللاً بالوجع, كلما كبر إيماني أنكم ورفاقكم الذين مازالوا على الجبهات صامدين, الحقيقة الوحيدة التي تمدني باليقين أن في الحياة ما يستحق العيش, ولذلك أنتم دائماً في شرفة الذاكرة, أنقلكم أحياء وشهداء, من عين إلى أخرى, ومن شهيقي وزفيري إلى قلبي, وأمتلئ بكم فخراً وحباً.