الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

يا دجلة الخير (5)

 

د. نضال الصالح

كلمتان فحسب، الله بالخير، وليس مرسلهما أو مرسلتهما من الأسماء المحفوظة في سجلّ الأسماء، وليس ثمّة صورة لصاحب أو صاحبة الرسالة، بل صورة لياسمين معرّش على سور حجريّ قديم، وعلى الرغم من أنّ معرفة مصدر الرسالة لم يكن يحتاج إلى عناء، بسبب ظهور رقم صاحبها أو صاحبتها مسبوقاً برمز الدولة، أي العراق، وعلى الرغم أيضاً من أنّني قدّرتُ أنّ صاحبها أو صاحبتها عرف أو عرفت بأنني أحد المشاركين في احتفالية بغداد عاصمة للثقافة العربية، فإنّني لم أستطع فهم رمزية الصورة التي اختارها المرسل لنفسه، أو المرسلة لنفسها، أعني الياسمين المعرّش على سور حجريّ قديم، الصورة التي أضرمت في رأسي أسئلة كثيرة، أوّلها ما الذي يدفع عراقياً أو عراقية إلى اختيار ما يمثّل أيقونة من أيقونات الشام؟
رددتُ على الرسالة بالكلمتين نفسيهما، وعلى الرغم من أنني أمضيت ساعات محدقاً في الهاتف بانتظار رسالة جديدة، فإنّ الأخيرة لم تصل إلا مساء اليوم الذي سبق موعد السفر، وكانت، شأن سابقتها، كلمتين فحسب، هما: “تنوّر بغداد”، فرددت: “بغداد منوّرة بأهلها”، وأتبعتها بالاستفهام: “مَن؟”، ولم أكد ألمس مؤشر الإرسال، حتى أضاء تعبير في أعلى الهاتف: “آخر ظهور…”، وكان ذلك يعني أنّ صاحب الرقم لم يعد متصلاً.
مِن بين كلّ مَن عرفتُ، من النشامى والماجدات، خلال دراستي الجامعية وما بعدها، وفي المهرجانات الشعرية العربية التي شاركت فيها طوال العقدين الماضيين، كانت خزامى وحدها هي مَن يتصدّر واجهة الذاكرة، ووحدها مَن كنت أقدّر أنها صاحبة الرقم الذي وصلتني الرسالتان منه، وطوال ما مضى من وقت، ما بين وصول أول رسالة وتلك الظهيرة التي حطّت الطائرة بعجلاتها الثقيلة فوق أرض بغداد، وصورتها تضيء روحي بغير ذكرى، ولاسيما الرسائل التي كنت أكتبها لسامي، ويزعم سامي، رحمه الله، أنها منه، وأستعيد بعض ما كنتُ أكتبُ في تلك الرسائل ممّا كنت أحفظ من مؤلفات القدماء في الحبّ والعشق والصبابة والشغف، ثمّ صورة سامي وهو يرجوني غير مرة أن أملأ رسائله إليها بما يملأ قلبها من التسبيح باسمه، بل بما يضرمه بالخفق أكثر، وهو يردّد: “والله، والله يا أصمعيّ أنت قلبي”، وعندما كنت أسارع إلى القول: “استقرّ على برّ يا سامي، خزامى أم أنا؟”، كان يسارع إلى الردّ: “هي وأنت، أيّ معنى لي من دونكما معاً؟”، ثمّ لا يتردّد في القول: “خزامى، خزامى روحي يا أصمعيّ”.
نحو عشرين سنة بين ما كان من أمر خزامى وسامي وأنا في دمشق وما كان من تلك اللحظة التي رأيت فيها خزامى بعد تلك السنوات كلّها. كنت أتوقع أن يكون ذلك ولم أكن أتوقع بآن. أتوقّع بوصفه حلماً مشتهى لأعرف ما لم أعرف من الأشهر الأخيرة في حياة سامي، أي قبل أن أقرأ اسمه بين عشرات، بل مئات المقاتلين العرب الذين استشهدوا على أسوار مطار بغداد في مواجهة الدبابات الأمريكية، ولا أتوقّع بأن يصير الحلم حقيقة، فأرى خزامى، أجل أراها بعد تلك السنوات العشرين…. (يتبع).