الهوية الوطنية!
رغم كل الأحداث المأساوية، والجرائم الإرهابية التي طالت المواطن السوري، ومع كل المحاولات الهادفة لزرع الفتن الطائفية، وتقويض العيش المشترك بتنوعه الفريد، نستطيع من خلال الحالة التي يعيشها بلدنا في هذه الأيام التأكيد على فشل ذلك الفكر المتطرف الذي حاول تكريس الهوية الدينية داخل المجتمع السوري، وعمل على طوءفة الدولة ومؤسساتها لشرعنة قيام الدول الطائفية، وتقديمها كحقيقة حتمية اجتماعية خلال سنوات الأزمة التي عمل رعاة الإرهاب بكل الوسائل على تكريس تلك الخصوصية المشوهة بالتقسيم، وإقصاء البعد الوطني، والسير في مسارات التطرف الديني الذي يسقط راية الوطن بكل ما تعنيه من مفاهيم السيادة والاستقلال، واستبدالها برايات التبعية والاستعمار، أو بتلك الرايات السوداء النافثة للسموم التكفيرية الحاقدة فوق التراب السوري الطاهر الشريف الذي ترتسم على كل ذرة تراب فيه أسطورة الانتماء الوطني السوري المعمّد بدماء أبناء البلد الواحد.
وفي هذه الأيام العصيبة التي تستباح فيها دماء الجميع دون استثناء طالما أنها سورية الجنسية، أيقن كل سوري حقيقة ما يجري بعد أن تبددت الأكاذيب، وتلاشت الصور الناطقة بالخيانة والتآمر أمام الحقيقة الموجودة على أرض الواقع، فحرص أبناء البلد الواحد على وحدتهم، وكافحوا وجاهدوا في سبيل الحفاظ على تلك الحاضنة الوطنية التي ينضوون فيها تحت مفهوم المواطنية التي تعد جهاز المناعة الأقوى للوحدة الوطنية، بعيداً عن الطائفية بفيروساتها المدمرة للمجتمعات التي يكون الولاء فيها للطائفة على حساب الوطن، والتي تكون بحضورها ساحة سهلة للتدخلات الأجنبية في غياب السيادة، وشيئاً فشيئاً ينفرط عقد الدولة نفسها التي ستتحول إلى مناطق هشة تتلاعب بها القوى الإقليمية، وتتحول إلى ساحة لتصارع النفوذ الدولي على ساحتها.
نعم البلد هو الدائرة الأوسع التي تستوعب مختلف الانتماءات في المجتمع، كما أنها بنظامها المؤسساتي الذي يستوعب كافة الفعاليات على مختلف مشاربها قادرة على وضع المعايير التي تلزم الأفراد بواجبات والتزامات معينة تحقق الاندماج والتشاركية في تحقيق مصالح المجتمع ككل الذي يعتمد على المواطنة، ويعمل على تكريسها ضمن مفاهيم المسؤولية العامة، والأهداف الوطنية التي يمكن تحقيقها من خلال أطر رسمية، وبنية اجتماعية متينة ومحصنة بالوعي، وتشرف عليها أجهزة الدولة التي تكون مسؤولة عن المحاسبة، والمساءلة عن الإخلال بمبادئها وتجاوز القوانين والأنظمة عبر المؤسسات المختصة، وبذلك تكون الدولة الممثل الشرعي الوحيد للبلد بكل ما فيه من حراك شعبي متعدد الاتجاهات والانتماءات التي قد تلعب فيما لو تم تقديمها على المصلحة الوطنية دوراً تخريبياً يتمثّل في تشكيل العديد من القوى الأيديولوجية، والثقافية، والاجتماعية التي قد لا يمكن السيطرة عليها ضمن البيئة الأسرية، والقبائلية، والعشائرية الخاضعة لمنظومة فكرية دينية مخربة ومدمرة لمبدأ المواطنة ذاته.
وبعد سنوات من حرب الوجود التي عاشها ويعيشها أبناء الشعب السوري الواحد ضد الإرهاب والتطرف الديني المدعوم من ممالك القتل والتخريب ذات التاريخ الأسود والنشأة المشبوهة، تبرز تلك الحقيقة التي لا يمكن أن تغيب عن أحد، بأن سورية كانت وستبقى بلد السيادة الذي لن يحيد عن مواقفه ومبادئه القومية والعربية، وستكون سورية دائماً بلد التسامح والتعايش والتآخي الذي يتعانق فيه الصليب مع الهلال، وهي بلد الإسلام المعتدل، وعلماؤها منارات شامخة في سماء الأمة الإسلامية والعالم أجمع، وهنا نستذكر كلام العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي: فلتعلموا يقيناً يا عباد الله عز وجل أن من يحاول ضرب الأديان السماوية والفرق الإسلامية بعضها ببعض، ليس من تلك الفرق ولا الأديان في شيء، إنه عدو لهم ويتربص بهم جميعاً، وإنه يريد أن يجعل كل واحد منهم ناراً تلتهب على أخيه، وأن سورية تعد أنموذجاً حضارياً لحقيقة الإسلام الذي يحتضن أطيافاً متعددة، وقد عاش أبناؤها نسيجاً متكاملاً أغنى صورتها في التسامح، والوئام، وعدم التنافر والتخاصم.
بشير فرزان