بين الريشة.. واليراع
أن تكون جزءاً من التاريخ يعني أن تبقى حيّاً في الوجدان جيلاً بعد جيل، وهذا ما ينطبق على المبدع صاحب الريشة الناطقة، فان غوخ الذي عرف عنه غزارة إنتاجه فخلال عشر سنوات فقط رسم مئات اللوحات، وتوفي الرسام الهولندي الأشهر عن عمر ناهز السابعة والثلاثين عاماً، رسم وكتب بشكل يومي، بالرغم من أن كتاباته للمقربين منه وبشكل مراسلات، وأغلبها لأخيه الأصغر ثيودور، مشكلة بذلك سجلاً لعصره وسيرة ذاتية له.
ومن المعروف لأغلب متذوقي الفن بشكل عام ومحبي غوخ بشكل خاص، أن أعمال الفنان الهولندي جمعت ووثقت من قبل فريق من المختصين، ووضعت في المتحف الذي يحمل اسمه بالعاصمة الهولندية أمستردام، ولم ينته الفريق من ذلك إلّا عام 2009، ولكن ما أنهى ظمأ عشاقه، قيام ثلاثة مؤلفين هم ليو جانسن وهانز لويتن ونينكِ باكر بإعداد كتاب بعنوان “الرسائل الأساسية لفان غوخ” عام 2014 يضمّ 265 رسالة من مراسلاته الـ 903 التي تمّ جمعها إضافة إلى أكثر من 100 صورة ولوحة فنية أصلية، فبالرغم من كثرة الكتب باللّغة الإنكليزية التي حاولت جمع مراسلاته أو الحديث عن لوحاته إلّا أنها لم توفق تماماً من حيث الإخراج والترتيب والمحتوى.
يمكن أن نقسم العمل إلى جزأين، يتحدث الأول عن حياة فينسنت فان غوخ الشخصية والمركبة، منزله وعلاقته مع أخيه وعلاقاته الغرامية ونظرة والده لفنه، والثاني يتناول بداياته ونبوغه وأعماله التي أثرت بالفن والأدب في عصره وإلى وقتنا الحاضر.
يبدأ الكتاب بإحدى رسائله إلى أخيه يصف فيها حياته بالمتقلبة والباردة، فهو ابن قس وحفيد لقس، ومن الطبيعي أن يمهد طريقه ليصبح مثلهما، لكنه فشل في امتحان القبول لكلية اللاهوت، وأرسلته مدرسة تبشير بروتستانتية، بعد ثلاثة أشهر من تدريبه كمبشر، إلى منطقة مناجم للفحم في بلجيكا حيث أدرك وللمرة الأولى أن العالم أكثره فقراء ومشردون، ونتج عن صدمته هذه أن أقام في كوخ دون أثاث متبرعاً بكل ما كان يملكه للمحتاجين، ليفقد بعدها وظيفته كمبشر ويطلق عنان الفنان داخله، وحول هذه الفكرة نذكر ما كتبه في إحدى رسائله لأخيه ثيو “حاول أن تفهم القيمة الحقيقية لما يقوله لنا الرسامون العظام من خلال أعمالهم وستجد الرب، فقد أخبرنا به راوٍ أو كتبه في كتاب وآخر رسمه في لوحة.. سآخذ قلمي وأستمر في الرسم”.
رجع بعدها إلى هولندا ليتتلمذ على يدي الرسام أنطون موف، والمدهش أنه لم يمتهن الرسم حتى السابعة والعشرون، فانتقل كثيراً ليدرس الرسم والألوان، قابل العديد من مبدعي زمنه وأثر وتأثر بهم كـإدغار ديغاس وكميل بيسارو وبول غوغان.
هرب إلى الفن ليعبر عن نفسه وليتواصل مع الآخرين، فأعماله تعبر عن وجهة نظره في الحياة، وحبه للمعرفة والموسيقى والأدب ملأ لوحاته سحراً فريداً، كتب عن كل شيء صادفه تقريباً من الصراعات العائلية إلى بيوت البغاء، عن الحزن والمرض والحب والفرح، وبالطبع عن لوحاته، والمحزن أنه في حياته أغلب من رسمهم نفروا من رسوماته واستاؤوا منها، فعبر كعادته عن ذلك برسالة لأخيه “أنا لا أرسم صوراً فوتوغرافية بل أرسم تعابير وجدانية أراها في عيون من أرسمهم”. وتأثرت أعمال غوخ بمحطات سوداء بحياته ولكنه أشرق ألواناً بعد كل منها، كموت والده وحبه لفتاة أصغر منه سناً، ومن أشهر لوحاته والتي أفرز لها المؤلفون مساحة كافية، آكلو البطاطا وعباد الشمس وليلة النجوم (الأجمل بالإجماع) لكن الأولى بالنسبة لي أكثرها تأثيراً، وعبّر عنها بإحدى مراسلاته قائلاً “إن الفقراء الذين يأكلون البطاطا قد حفروا الأرض بنفس الأيدي التي يأكلون بها، هي وجبة استحقوها بجدارة نتيجة عملهم الشاق”.
تولى أخوه ثيو بيع لوحاته، لكنه مع ذلك لم يوفق ببيع لوحة واحدة في حياته، فقد وصفها معاصروه باللوحات المظلمة والكئيبة، وسكتت بعد وفاته كل الأصوات التي اتهمته بالجنون والكفر، لتبقى عبقريته خالدةً ما بقي فنّ على الأرض، “وجد السلام الذي لم يتسن له العثور عليه على الأرض” وبهذه الكلمات وصف ثيو موت غوخ بين يديه، بعد أن أنهى مشواره في الريف الفرنسي وهو يرسم كل يوم لوحة كاملة.
واقتبس من الكتاب أيضاً عمل سينمائي بعنوان “المحب فينسنت” عام 2017، ولاقى نجاحاً عالمياً وتقييماً جيداً من قبل النقاد وهو من كتابة وإخراج البريطاني هيو ويلكمان والبولندية دوروتا كوبيلا الحاصلان على جائزة الأوسكار عام 2008 لأفضل فيلم رسوم متحركة، ويتميز الفيلم بأنه أول عمل سينمائي في العالم يتكون كاملاً من الرسوم الزيتية.
كثيرون من خطوا بطريق غوخ بحثاً عن أنفسهم لكن قليلين منهم وجدوا ضالتهم مثله، وحتى يكون لحكايتنا خاتمة سعيدة، توفرت وأخيراً ومنذ بضعة أشهر نسخة مترجمة إلى العربية بعد أن كانت لغات العمل مقتصرة على الإنكليزية والفرنسية والهولندية، والغريب أن سعر النسخة الأجنبية (الأصلية) ما يقرب من 15 ألف ليرة سورية بينما سعر النسخة العربية (المترجمة) ما يقرب من 26 ألف ليرة سورية؟.
سامر الخيّر