الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

وشم الزمن

سلوى عباس
فجر آخر يذهب، وآخر يأتي.. نهار آخر.. سنة أخرى ترحل بكل خيباتها ولحظات فرحها العابرة.. ويبدأ عام جديد بكل ما يخبئ في جعبته من حكايات ملونة بألوان الحياة المتماوجة بين غيمة حزن وغيمة فرح.. في هذا اليوم حضرت في ذاكرتها تلك الطفلة التي كانت تنام وراء الحلم جاهلة في الحياة حقيقتها المخاتلة.. استذكرت تعاليم أمها التي كانت تسربها لها عبر حكايات ما قبل النوم، بدءاً من حكاية ليلى والذئب الذي يتربص بها، وصولاً إلى حكاية الفتاة التي سيأتي يوماً وتستبدل شرائط جدائلها الملونة بأزاهير الطفولة وعفوية لحظاتها، بشرائط ملونة بألوان الحياة المختلفة.
مر الزمن وكبرت هذه الطفلة واختلفت الحياة بالنسبة لها.. استبدلت جواز سفرها الطفولي بآخر مليء بالآمال والطموحات.. رفعت مرساتها باتجاه شاطئ آخر لتكون ابنة الحاضر والمستقبل، حاولت التمرد على كل من يفكر باغتيال انطلاقتها، والتحرر من رواسب نفسها، وتعيش لغدها الذي أصبحت فيه أغنيات فيروز هي من تهدهد روحها، فكانت تغفو وتصحو على صوتها وتستمتع بحكاياتها التي ربما احتارت أي من هذه الحكايات تشبه حكايتها.
في هذا اليوم الذي حضرت فيه أيامها الماضية حضرت في ذهنها عبارة لقريبتها التي كانت ترعبها ندوب تركها حادث حصل معها في طفولتها على وجهها، من أن لا تحقق حلمها في الحياة بأسرة تعوض من خلالها كل ما افتقدته مع أهلها، فكثيراً ماكانت تردد “الفتاة الجميلة لا تخيفها الأيام، رغم أنها كانت متفوقة دراسياً ووصلت إلى مراتب دراسية عالية، لكن ظل هاجس أن يكون في حياتها شخص يرسم تفاصيل حياتها هو الغالب على تفكيرها، وكان لها ما تمنت والتقت بشريك حياتها وأسست معه أسرة لا أدري إذا كانت على مستوى ما تمنتها يوماً، أما قريبتها التي كانت تغبطها جمالها، الذي ظنت انه سيكون جواز سفرها الأهم، فقد أخذتها الحياة في مساربها المتعرجة، وتركتها هائمة في الحياة كيمامة ضلت طريق عشها، يتلبسها حزن مطبق على روحها كلما حاولت الإفلات منه زادت الحبال حولها تشابكاً، وحكايات أمها وما اختزنت في ذاكرتها من تفاصيل براءتها لم تنقذها من كذب الآخرين عليها، وسرقتهم سنين من عمرها، والحظ الذي خانها مرات ومرات.
هي مشاعر انتابتها في لحظة من عمر الزمن، لترى حياتها شبيهة بحكاية فيروز التي قرأتها “بكتب زرقة.. عن حلواية بتشكي الفرقة قصتها أبكتها وأخذتها بدنيا في لا تدري من يومها ماذا حصل لها”.
يبدو من مفارقات القدر أنه في النهاية يفرض علينا ما يريده ويوشم أرواحنا بوشومه، لنكتشف بعد مرور الزمن أن كل ما حققناه في حياتنا، وما لم نحققه، رهن أقدار محضرة لنا فنرى أنفسنا محاصرين بزمن يحيل التباين في الأشياء مستوياً.. يساوي الحب بعدمه، والصوت بالصمت ولون الحقيقة بالضباب.. لحظات عاشتها مع نفسها كانت لها كميناً من النشوة المخادعة التي أسقطتها في أعالي الحلم، فبدت كما وردة أغلقت الظلمة جفونها طوال ليل من برودة وسكون ثم خلخلت ضياءات النهار وريقاتها بالانتعاش الذي تعيشه للحظات، وتعود مرة أخرى إلى سباتها علها تقع في شرك حلم آخر يعيد انتعاشها.