جاي النصر..جاي الحرية..
“من شهدا الأرض اللي ماتوا للأرض ووجوهن منسية.. جاي النصر جاية الحرية”
كنت أقف في باص النقل الداخلي، وبصعوبة أحاول الصمود والثبات كي لا أميل إلى أحد الاتجاهات.
لم أمتلك بديلا عن الوقوف، فإما الوقوف تحت الشمس بانتظار باصٍ غيره بأماكن شاغرة، أو الوقوف في هذا الباص، “الصعود وقوفاً أسهل من الانتظار في الشمس نصف ساعة أخرى” قلت مواسيةً نفسي، علّي أهوّنُ عليها هذا الوقوف المتعب، ويبدو أن القدر استجاب لي، حينما همّ أحد الركاب بالنزول منه، فاتجهت بسرعة وأخذت مكانه.
شعرت وكأنني حصلت على المرتبة الأولى في إحدى المسابقات “أضحك في نفسي” المهم أني جلست، وليتحرك الباص ويميل كيفما يشاء.
لم يمض دقائق على جلوسي في المقعد حتى شعرت بيد تربّت على كتفي، التفتُ بسرعة فإذا هي امرأة مسنّة قد قاربت على السبعين من عمرها تظهر على ملامحها طيبة تختلط بحزن دخيل استقرّ في عينين أفقدتهما الأيام اتساعا كان لهما في شبابها، أما تجاعيدها فقد كانت قريبة إلى خطوط الأرض، إلى ظمأ التربة بعد صيف طويل، كانت تحاول الابتسام في وجهي وأنا أنظر إليها بدهشة: في شي خالة؟
قلت لها وأنا أحاول تشغيل ذاكرتي، ظنّاً مني أنّي أعرفها ونسيتها، ولكنها بادرتني وقالت: “لا حبيبتي، بس عجبتيني كتير وحبيت أتعرف عليك”.
كانت تجلس إلى جانبها فتاة يبدو أنها ابنتها لكنها تبدو أكبر مني عمراً، بملامح بسيطة ابتسمت لي ونظرت إلى والدتها.
ذهلت للوهلة الأولى، “هل حقا ماتقول”، وقبل أن ألحق السؤال الأول بثان، قالت: “عندي ابني شب ضابط، بيجنن، طويل وأسمر وعيونو سود متل الليل، ذكي كتير، كان الأول ع دفعتو بالهندسة، ومهذب ومحترم، وعم دورلو ع صبية بنت حلال، حلوة ومرتبة”.
لم تعطني الفرصة لأستوعب ماقالت، حتى أردفت بسؤال: “شو بتشتغلي، وابتسمتْ حينما أجبتها، ثم عاودت وسألت: كم عمرك؟”.
عقلي لم يحتمل ماتقول، فعلى الرغم من الرحمانية الظاهرة على ملامحها إلا أن هذا لم يمنعني من الاتجاه إليها بنبرة غضب: “خالة عم تحكي جد!، هيك الأمور بتصير؟” وما إن لفظت بجملتي حتى مدّت الفتاة التي كانت بجانبها يدها ووضعتها على كتفي وهي تقول: “سايريها دخيل عينك”.
– “كيف بدي سايرها”
– “هلأ بحكيلك القصة، سايريها وبس”.
وعادت العجوز إلى أسئلتها الكثيرة، وأنا أجيبها على مضض، وابنتها بين الفينة والأخرى تبتسم في وجهي بامتنان.
انتهت الأسئلة، ومضت دقائق عدة لم يتكلم أحد منّا بكلمة، وقف الباص وصعدت إليه فتاة جميلة فما كان من العجوز إلا أن ابتسمت لها، ثم ذهبت إليها تطلب منها التعرف أيضاً.
كانت علائم الدهشة تعلو ملامحي، حينما قطع دهشتي وشرودي صوت الفتاة ابنة العجوز بالكلام: كان أخي مهندسا جميلا، وكان إلى جانب جماله متفوقا، أعين الفتيات تلاحقه أينما ذهب، انتسب أخي إلى الكلية في ذات شتاء، وأخذته منّا الحرب في ذات صيف.
مسحت دموعها وتابعت: استشهد أخي في جوبر منذ عام، وكان قبل استشهاده بفترة قد طلب من والدتي أن تخطب له، فقد استطاع الحصول على إجازة طويلة، والجيش فد حرر مناطق كثيرة، ولم يبقَ إلّا القليل حتى يعلن جيشنا البطل سورية خالية من الإرهاب، ولكن للأسف، لم يمضِ وقت طويل حتى زُفَّ أخي شهيداً للوطن.
صمتت لبرهة، ومسحت دموعها: ومنذ ذلك اليوم وأمي مازالت تبحث له عن ابنة الحلال.
صمتت الفتاة، وصمتُّ مثلها: “الله يرحمو ويصبرها” لم أجد سوى هذه الكلمات الثلاث في عقلي الذي توقف نهائيا عن التفكير وانشغل بتلك العجوز المفجوعة والرافضة للواقع.
وقبل أن تنزلا من الباص، اقتربت مني الابنة وقالت: “على فكرة أنت العروس الـ ٣١ لأخي المرحوم”.
“من شهدا الأرض اللي ماتوا للأرض ووجوهن منسية.. جاي النصر جاية الحرية”
مادلين جليس