رحــــلـــــت عــــــاشـــــقــة دمشق
تعود معرفتي بالأديبة الراحلة اعتدال رافع إلى عام 2010 عندما اتصلت بها لإجراء حوار معها، فتفاجأت بعدم رغبتها بأي حوار، واحتجت بأن بيتها بعيد ولن أستطيع الوصول إليها، لكن أمام إلحاحي اضطرت لإعطائي عنوانها، وعندما بدأت الحوار معها كانت مثل غيمة تمطر الكلام سخياً، وكأنني أمام إنسانة مختلفة كثيراً عن المرأة التي حدثتها بالتلفون، وبعد أن أنهينا الحوار طلبت مني أن أبقى فترة أطول، وأخذت تحدثني عن تفاصيل حياتها الخاصة بها التي تحتفظ بها لنفسها، بعيداً عن النشر في الصحف، والمفارقة أنه بعد أن نشر الحوار قالت لي: هذا الحوار له خصوصيته لدي حيث تولدت لدي رغبة بالحديث لم تعتريني منذ مدة من الزمن.. وضحكت قائلة ربما كان لحضورك سطوته عليّ فانسابت الكلمات بعفوية وبساطة دون تكلف أو تزويق، ومنذ ذلك الوقت ربطتني بها صداقة استمرت حتى غادرت هذه الحياة، ولو أنها في الفترة الأخيرة اقتصرت على التلفون فقط.
في الحوار الذي أجريته معها آنذاك سألتها إذا كانت تنظر للكتابة كحالة خلاص أم أن لديها رؤية أخرى فقالت:
في الكتابة أفرّغ بعضاً من الضغط النفسي والأوجاع التي أعيشها، وأوجاعي ليست فردية وإنما عامة، فأنا أعتبر وجعي الفردي هو وجع كل امرأة، وكل إنسان، وفي كتبي التي أنجزتها كلها لم أتعرض لعلاقة حب مباشرة مع الرجل، لأن الحب بالنسبة لي علاقة كونية شفافة وإلهية لا تنتهي في غرف النوم، لكن أحب أن أكتب عن معاناة المرأة كإنسانة، وحتى معاناة الرجل المقموع، فأنا لا أفرّق بين المرأة والرجل، ولا أعتبره عدو المرأة فالرجل ندّ لي، وعلاقتي به علاقة تكامل وليست علاقة تصادم.
كانت كتاباتها تحمل الكثير من الحزن الذي تبرره بقولها: أنا حزينة لأنني امرأة مسبقة الصنع، ومقولبة حسب العرض والطلب، لم أعش قلبي ولا مشاعري إلا في أحلامي، لكن أسعد لحظات حياتي هي أمومتي، ففي العشرين من عمري كنت أماً لطفلتين، كنت ألعب معهما وكأنهما ألعابي، لذلك فرّغت كل حاجتي للحنان وكل الأشياء الجميلة التي في داخلي أعطيتها لهاتين الطفلتين، وهما متميزتان جداً.
كانت اعتدال تحب أن تعيش زمناً تكون فيه كالفراشة أو كالعصفور فتقول: أنا مثل فراشة فرجينا وولف محجوزة في بيت زجاجي أضرب الزجاج بأجنحتي حتى أحدث فيه شرخاً لكنني بالنهاية أسقط صريعة وأعلن هزيمتي، أنني لم أستطع أن أفعل شيئاً، ولم أستطع أن أفتح نافذة يدخل منها هواء نظيفاً ونقياً، ربما أكون مثالية جداً، وربما متمردة كثيراً، ورغم سني الآن فأنا لا أختلف اليوم عن بنت العشرين التي كنتها، مازلت أكتب بنفس النبض والقلق الذي كنت أكتب بهما، وربما السبب أنه لم يتحقق شيء من أحلامي، وأحياناً هناك اعتراض على كتاباتي.
وعن طقس الكتابة لديها تحدثت: ليس من طقس محدد يحكم كتابتي، لأنني عندما أحتاج للبوح ألجأ للكتابة التي حمتني من الجنون والموت.. أصبت بالسرطان ثلاث مرات وآخر عملية “كانسر” أجريتها كانت عام 2005 الكتابة كانت هي علاجي، وليس الكيماوي أو الأشعة، هي بلسم للروح والجسد إذا كانت كتابة صادقة.
وعن دمشق وماذا تعني لها كانت تردد دائماً: أنا أعشق هذا الوطن وأدعو الله دائماً ألا يميتني إلا في دمشق لأنني إذا خرجت منها أموت، فهي بيتي وطفولتي التي مازلت أعيشها بحكم أنني حُرمتُ منها وأنا صغيرة، والعفوية التي أتمتع بها هي امتيازي حتى في كتاباتي، فأنا لا أستطيع أن أراقب أفكاري والكلمة تخرج من قلبي إلى لساني دون أن تمرّ على عقلي، أمررها عبر القلب لأنه الأنقى ويفسد خطط العقل دائماً.
رحلت اعتدال رافع.. رحلت عاشقة دمشق.. رفعت مرساتها باتجاه الشاطئ البعيد تاركة خلفها كل أحلامها وكل الحب والنقاء الذي كانت تنثره على أرواح محبيها وأصدقائها الذين سيفتقدونها كثيراً.. اعتدال رافع.. لروحك الرحمة في مستقرها آمنة مطمئنة.
سلوى عباس
Comments are closed.