رساميل النخب وأرزاق الفقراء
لم نعد على يقين من أن ثمة جهوداً فعليّة، تعبّر عن إصرار حقيقي لتحييد مؤسسات وأملاك القطاع الحكومي بعيداً عن تيار الخصخصة الجارف، وإن كان يتسم بتدفق صامت، فأخطر السيول هي تلك المباغتة التي لا تحدث ضجيج مقدمات.
وإن كنّا هنا لا نسجّل موقفاً جديداً في سياق الاصطفافات القديمة بهذا الخصوص، إلّا أن مستجدّات تجري حتّمت مقاربتنا الآن لهذا الملف الإشكالي فعلاً، على خلفيّة التباينات الصارخة بين القول والفعل، تباين لم نعتده أبداً في تعاطينا مع الملفات ذات الحساسية العالية، كهذا الملف.
ودعونا نسأل عمّا نفعله حالياً لحماية القطاع العام، أكثر من جملة “القطاع العام خطّ أحمر” التي أدمنّا تردادها، في مجالسنا الرسمية وتداولاتنا التي تحتاج عادةً لنبرة “الدم الحامي” في إطلاقها، وبعضهم يضيف: نقطع اليد التي تمتد إليه؟!.
لقد تراكمت أمامنا وقائع كافية، لنستنتج أن صعوداً لافتاً يسجّله رأس المال الخاص “بمرجعيّة نخبويّة” في الميدان الاقتصادي، وهي ربما حالة طبيعيّة في ظل الفراغ الذي خلّفته الرساميل الهاربة منذ بداية الحرب على سورية، إذا كان لابد من بديل، وإلّا لتوقفت عجلة التنمية عن السير، وفي الحقيقة امتاز حضور من بقي من رجال المال بنفحة وطنيّة تستحق التقدير، بعيداً عن غايات البقاء التي لم تتعد حسابات الربح والخسارة أحياناً، أو إدراك الجدوى المغرية من الاستثمارات ذات مطارح “حافّة الهاوية” والبيئات القلقة، والعلاوات التي تعد بها في مراحل الاستقرار اللاحقة.
إلّا أنّ ما يثير الهواجس من مجريات المشهد الجديد لهياكل الاقتصاد السوري، هو التراجع، حدّ التقهقر، لمؤسسات الإنتاج الحكومي، التي تتساقط بالتقادم، وتنوء تحت عبء آلات منتهية العمر التشغيلي، أي “متوفّاة دفترياً” بكل معنى الكلمة، لكننا لا ننسى عند الضرورة أن نعيد تأكيد “قدسيّة” القطاع العام قبل أن نخلد إلى النوم؟!.
إذاً لم نتخذ القرار بعد، بشأن إنقاذ أو “نعي” هذه المؤسسات بشركاتها، رغم أننا بتنا في كامل الجاهزية لتقبّل أي قرار صريح، يفصح عن توجّه جاد ورسمي ليتبنّاه الجميع، ويعمل على تجسيده واقعاً.
الآن لا بأس بـ”الخاص”، فهو قطاع ومال وفعالية وطنية، مهما تكاثفت محاولات التصيّد وفق أدبيات راجعة من ذاكرتنا القديمة، لكن هل نبقى نتحدث عنه كشريك حتى يتلاشى “العام” الذي كان أساس مزاعم الشركة، لنطالب لاحقاً بفرصة له ليكون هو الشريك الباحث عن دور.. أي عمّن يشاركه؟.
اليوم نبدو في موقف مختلف تماماً، عنه في زمن الاستعراض الكلامي، لأننا نقف في بوابة الانطلاق نحو مرحلة جديدة، تملي مفردات مختلفة تماماً وكذلك الأدوات، وربما لم يعد من متسعٍ لحالة الجدل العقيم، الذي يتفاعل عادةً في طقوس الاستقرار والترف، فعلى الأرجح سنكون بحاجة لإمكانات الجميع من دون استثناء، وبكل مواردهم وطاقاتهم بعيداً عن الهوية القطاعية والطبقيّة.
من هنا نمسي أمام حتميّة ببعدين اقتصادي واجتماعي، تتمثّل بالعمل سريعاً على إعادة إنعاش شركات القطاع العام الإنتاجي، مصادر رزق الفقراء، أو إعادة هيكلتها بما يضمن استبعاد، بل طرد، الاختصاصات الإنتاجية الهزيلة ببساطتها، والتي من المفترض أن تكون من اختصاص ورش ومشاغل أهلية محليّة، وتحويل القطاع العام إلى “طاقة استراتيجية” يستقل بالصناعات الكبرى.. وكان مريباً أن ما فعلناه هو العكس.. أبقينا على صناعة المربيات والكونسروة للقطاع العام، وأعطينا صناعة الإسمنت للقطاع الخاص!!.
وقبل أن نختم سنلقي بسؤال برسم الإجابة، وهو: هل ستبقى وزارة الصناعة صاحب عمل أي “شيخ كار عجوز”، أم وصياً استراتيجياً على كامل القطاع.. يشرف وينظم ويضبط إيقاع الإنتاج الوطني؟.
ناظم عيد