فخ “السفر نصر”!؟
د. نهلة عيسى
أربعة هواتف محمولة, وآخران أرضيان, والرنين بينها سجال, ومكتبي “إنائي” يبدو كخيمة البدو الرحل, عشرات البشر داخلون وخارجون, مراجعون وطالبو خدمات, وزائرون ومقيمون دائمون, والثرثرة تبدو قدراً, حيث الكلام يلاحق بعضه بعضاً, باهتاً, بارداً, مكرراً, زائداً, مثل (ما) الزائدة على إن وأخواتها, أو كالبندقية تصيب العقل في مقتل سريع علني, والقلب كرفوف المكتبات في البيوت الارستقراطية, يعشعش فيه خواء الخواء, ووحدها عيوني لا ترى سوى ما تريد أن ترى!؟
وحدها عيوني تعرف ما يجب أن يُرى, والأصدق ما يستحق أن يُرى, وأعني أولئك الشباب والرجال على الجبهات, يقاتلون بالأحلام المكسورة, ويرسمون بخطواتهم الثابتة “نوتة” إيقاعنا النفسي في مناخ يبدو غير مواتٍ للفرح, بل غير مواتٍ للحياة, حيث يمتزج السلاح بالمال بالبترول، بالقوة، بالموت, على أرض ما زال أهلها يتغنون ويتلذذون بمذاق البطيخ الأحمر, وبطعمه يفرحون, ثم يستجدون الرب المغفرة, ويتعوذون من الشيطان الرجيم لأنهم فرحوا!.
وحدها عيوني تختار ما ترى, والحقيقة أن ما تراه عيوني خلف خطوات الجنود المقدسة والمُحررة، بشعاً إلى حد أنني أتمنى ألا أرى, إذ يتحول النصر في أفعالنا وعلى ألسنتنا إلى مهرجانات خطابية تفرغ النصر من النصر, وإلى رايات يرفعها حطامنا, وديكورات من البلاستيك الملون, وهياكل سيارات فاخرة بلا محرك, لا يمكن أن تقود إلى غدٍ, ولا إلى طريق يجعل تحرير الأرض مقدمة وتوطئة لتحرير عقول البشر من سبع سنوات ونيف, صارت فيها حياتنا “سفر برلك”, وصار فيها الوطن دولارا, وصارت المواطنة وجهة نظر, وأصبح فيها الرب بعضاً منا, وهم أقلنا علماً, يفتون ما يشاؤون ويقتلون ويحرمون ويحللون, ويصوغون العقول وفق منطق اقتل, اسرق, دمر, حطم, ثم برر, فحضن الوطن فسيح متسع, حتى لو كان معظمنا بسبب هؤلاء الأرباب, يعيشون على الاستدانة والحبوب المنومة والمنبهة ويقامرون بالصبر, وربما يخسرون في ليلة ما, في رهان ما, في لحظة حزن تفوق الصبر, كل ما صبروه طوال العمر!.
وحدها عيوني تختار وتعاني إذ ترى مشاهد البؤس في الوطن تدهن بطلاء الأظافر, وكل ما حولها (لعيوني) يوحي بالحيرة: هل ما يدور وما يجري, يجري حقاً أم هو تمثيل؟ أهؤلاء نحن بعد حرب ضروس, أم أننا كومبارس؟ ولماذا نشاهد أنفسنا عبر شاشات التلفاز المؤطرة ونحن هنا, وكل ما جرى لنا حولنا؟ تراه التلفاز سرق الواقع وتجاوز الخط الفاصل بينهما؟ ولماذا نستمع للآخرين وهم يتلون علينا عظاتهم حول ما يجب (بعد النصر) أن نفعل, مع أنه من المفترض أن نكون الأعرف بما كان وبما هو واجب أن يكون؟ ولماذا نلتهم النصر وكأنه الزاد الأخير, ونترك الغد فريسة للأمس يلاحق حتى ظلال أحفادنا, منتظراً كالسابق لحظة وهم رخاء واسترخاء, لينفجر الزلازل من جديد, خاصة وأن كل ما حولنا يؤكد أن “الزلزال” مستمر في كل لحظة بشكل ما, ومعنى ما, لكن أكثرنا مأخوذ بنشوة “السفر نصر” فلا يشعر به! فبالله عليكم: هل أحسدهم أم أرثي لهم, أم أخاف على الوطن منهم!؟
وحدها عيوني تختار وتشقى بما ترى, وكأن البلد بأسره بات معملاً للأوهام, يغذيه أداء حكومي يساهم في التعتيم على الجانب الإنساني (وهو الأهم) لمأساتنا لصالح الجانب الحرفي والتكنولوجي الذي يبغي إعادة بناء الحجر, بينما يتجاهل أن عقل ووعي من هدم الحجر, هو الأولى بالبناء, وإلا سيبقى هؤلاء (ربما مؤقتاً) خلف الكواليس, وفيما بعد علناً يعيدون إنتاج أفلام “ما سمي بالثورة” ليضعونا والوطن مجدداً في مواجهة أهوائهم, وأقدارنا الغريبة في أننا في بلاد لا يليق بها سوى صناعة الأحلام وتحقيقها, لكن الكارثة أن من يديرون شؤونها خبيرون في تحطيم الأحلام فوق الرؤوس!.