الشاعر طلال الغوّار.. اتساع متاهة الشعر
ما الذي يمكن أن يحدث حين يشكل الشعر، هاجسا وجدانيا في النفس الإنسانية وكيف يمكن التخلص من ذلك المرض الجمالي الغريب.. هل ثمة طرائق يمكن إتباعها لترويض ذلك الفعل الذي يملأ الروح بالقلق ويخضعها إلى مكائن الاستعباد بشكل تظهر معه المعاني الإنسانية وكأنها خطابات تحاول استباحة الأرواح المتلقية، فهل الشعر استباحة للنفس الإنسانية فعلا؟ ربما في الإجابات ثمة اضطراب، لأن لحظات ومفاهيم تلقي الشعر من متلق إلى آخر تختلف كليا، ومع اختلافها تختلف التفسيرات والدلالات وتتحول الرسالة الصورية الشعرية إلى مجموعة رسائل تثير الفزع في الكثير من موجوداتها وهذا ما يفعله الشاعر طلال الغوار، الذي حاول منذ الفجر السبعيني دخول بيت الشعر، وسط ضجيج جيل منح نفسه سلطات التغيير والإلغاء، والتفرقة الشعرية، التي أثارت جدلا لا يستهان به، بين جيلين، احدهما يعتقد انه مؤسس الشعرية العراقية، أو هو وريثها الذي لابد له أن يظل ممسكا بصولجان الشعر حتى الخاتمة وجيل آخر وجد نفسه بحاجة إلى تفسيرات شعرية جديدة، تأرجحت بين فهم الشعر السيابي، ومفاهيمه الحديثة وبين قصيدة النثر ومكوناتها الآتية من رحم الآخر برغم تلك المحاولات التي قام بها توفيق صالح وسواه، كان طلال الغوار، ينظر إلى هاتيك الإشكاليات بشيء من الغرابة والتقصي، لهذا نراه ينحسر أحيانا بأمواجه عند الفهم الستيني للشعر ويعاود مده عند ضفاف المد السبعيني الهائج، يقرأ شعره بتراجعات واضحة، ويراجعه بقصد إثارة الانتباه إليه، لكنه ظل صامتا داخل مشاغله الشعرية، ودونما ضجيج ليقدم منشوراته الشعرية التي تفيض بوجد ومبهرات لا يمكن أن تجدها في الكثير من الشعر السبعيني وما لحقه، ظل الغوار، يغور عميقا في بحار الاكتشافات الخاصة به دون أن يعلن انتماءه حتى اللحظة لأي جيل، واعتقده لا يؤمن بتلك الانتماءات التي تشبه الأيديولوجيا السياسية، فهي مقيد معرفي يفرض شروطه على الشاعر، ويملي عليه الكثير من المتفقات التي قد لا تهفو إليها روحه الشعرية.
لا تنتمي قصائد الغوار إلى نوع تحدده الانتماءات ولا يمكنه أن يظل أسير محطة شعرية واحدة لهذا فهو دائم التنقل بهدوء عبر انهار الاختيارات التي تأخذ بمتلقيه إلى طرقات لم تك مكتشفه من قبل، طرقات فيها من الجمال الباهر، أكثر مما فيها من سقط المتاع الشعري، والذي يمكن أن اسميه الشعرية الرثة، وهو يحاول الأخذ بروح الشعر، تاركا وراءه كل ما يمكن أن يثير جدلا تافها خارج المنظومة المعرفية التي تؤسس لشعرية مغايرة، وبرغم قلة الدراسات النقدية العراقية لمنتج الغوار، التي قد تكون متعمدة لأسباب كثيرة أهمها سياسية، لكنه ظل متماسكا غير آبه بتلك المتابعات، وغير راغب بها أصلا، راح يواظب على تقديم منتجه العقلي بحرص واختيارات صوريه تعمدها منتمية إلى الجمال أكثر مما هي منتمية إلى البساطة التي لا تفضي إلى غير الشعرية الساذجة، تتوافر الصور التي ينسجها الغوار داخل نصه الشعري بقوة اتساعها ولكنها قوة تدفع في كثير من المرات متلقيه إلى عمق مفاهيمي ذاك الذي يعرفه من خلال القراءات الشعرية السابقة، تبدو الصور مقنعة حين نتأملها من الخارج ولكنها، توهم هذا الإقناع لتسقطه في براكين الأسئلة التي لابد منها كضرورة شعرية ، الشعر مهما كان ، دونما سؤال يثير المتلقي، سوف يظل شعرا ناقصا ، او هو يف عند حافة الفراغ، يثير الشهية، لكنه لا يترك اثرا فلسفيا داخل النفس المتلقية ، وهذا ما يحدث في الشعرية العراقية بعد الاحتلال، لأنها لامست الواقع بل ونسخته بكليته دون ان تتمكن من فلسفة هذا الواقع والوقوف عند كيفيات السؤال ألفلسفي راحت ترسم فقط المأخوذ من الواقع دون تحديد لمعلم الاختيار الذي لا يثير الدهشة كثيرا ، لهذا عمد الغوار وهو الملاحظ الذكي أن لا يأخذ من الواقع اضطراباته دون أن يشيد حواضر بنائية لتحتضنه وتجعل منه شعرا حقيقيا مؤثرا، والغريب أن النقدية العراقية، لم تهتم لهذا الأمر المهم، وهي أيضا نقدية متراجعة لا تتوافر على ملاحقة هموم الإبداع فراحت تتوسل المباني الخارجية او الاهتمام بالسردية العراقية التي بدأت تشكل حضورا إبداعيا متميزا، طلال الغوار، بنّاء ماهر وسط فوضى شعرية عارمة لهذا اعتقد انه سيظل إلى زمن ربما طويل يعيش تلك الوحدة التي يجدها هو ضرورية ولكني أجدها منقصة في النقد العراقي الذي لم يسع لان يقدم طلال الغوار لمتلقيه بشكل معرفي يجعله في الصف الأول من الوجود الشعري الإنساني .
شوقي كريم حسن