نهاية التغريبة السورية
على شاكلة ملف الكيماوي.. يبدو أن المطلوب استنزاف ملف المهجرين واللاجئين حتى آخر قطرة معاناة في تغريبة السوريين. مجموعة كاملة من الاشتراطات السياسية المثيرة للسخرية يطرحها البعض، وعراقيل لا تقل إثارة للغرابة يحاول البعض الآخر – ومنهم أشقاء للأسف – افتعالها على أمل الاستمرار باستغلال هذا الملف – وإلى ما لانهاية – كبقرة حلوب يمكن من خلالها متابعة التسوّل ومد اليد بالاتكاء على محنة شعب طالما ادعوا نصرته، والحفاظ على تدفق صنبور المساعدات والمعونات الدولية، كما الاستمرار بخداع الجمهور المحلي حول حقيقة أزمات بنيوية تعاني منها اقتصاديات لبنان والأردن وتركيا على الأخص.
منذ البداية، كان هناك من سارع إلى التعامل مع واقع النزوح والتهجير واللجوء القسري كورقة ضغط سياسية من مفرزات الحرب، وفي الاتجاهين: بدأ الأمر كعملية مدبرة ومقصودة تحت وابل من القصف الإعلامي والتخويف والتهويل لإفراغ سورية، والمناطق الحدودية خاصة، من العامل السكاني بهدف إحالة سورية إلى أرض بلا شعب، ومن ثم تمهيد الطريق أمام أي تدخل عسكري محتمل وإدخال المرتزقة والإرهابيين الدوليين؛ وفي مرحلة لاحقة النظر إلى المهجرين واللاجئين كاحتياطي بشري يمكن تجنيده عند الضرورة لتشكيل ميليشيات وجيوش محلية يمكن التستر خلفها لإضفاء طابع من الشرعية على سياسات التدخل الخارجي؛ وفي ظرف ما، ربما سيصبح هذا الخزان البشري البائس، في جزء منه، وتحت ضغط الحاجة المعيشية والضياع الوطني والأخلاقي، القوام الأساسي للجسم الإرهابي المسلح الذي سيحظى بالدعم والاحتضان المالي واللوجستي الأطلسي والوهابي والعثماني الجديد. وها هم اليوم، مع نهاية الأزمة، يصرون على تحويل كل هذا الكم من المعاناة، وكل سنوات الألم، إلى ورقة للضغط والمساومة السياسية لتبقى سيفاً مسلطاً فوق رأس “نظام” حقق الانتصار على الأرض وكسر رهانات الجميع ، ومادة للابتزار والعرقلة ووضع الاشتراطات على صعيد عملية إعادة الإعمار بعد أن عجزوا عن فرضها بقوة سلاحي الإرهاب والحصار الاقتصادي.
وما بين بداية ونهاية الحرب، كان هناك التباكي الوقح على الوضع الإنساني للشعب السوري، وكانت هناك المخيّمات التي تحوّلت إلى أسواق للرقيق الأبيض، و”جنان” لفحيح عجائز وشيوخ الوهابية الجنسي، وكان هناك الإتجار بالأعضاء، ومافيات تهريب اللاجئين، وبلدان الجوار التي أخذت ترفل في ازدهار تدفق المساعدات المعونات “الإنسانية”، وتتنعم بالعمالة البخسة الثمن، وتمارس ازدواجية رخيصة في التسول للمنظمات الدولية والتفنن بالعنصرية المكشوفة بحق سوريين فقراء ومتعبين، ليجد هؤلاء أنفسهم اليوم، وبعد سنوات من المحنة، إزاء مفارقة غريبة من نوعها، وأمام واقع إشكالي لا ترتبط فيه عودتهم إلى وطنهم برغبتهم الشخصية، ولا باستقرار الوضع الأمني، ولا بالتسهيلات التي توفرها الدولة السورية لضمان حياة آمنة لهم في بلداتهم وقراهم، وإنما بفيتو سياسي غربي غير معلن فرض على الشعب السوري، ويستمد قوته من جملة إجراءات اقتصادية قسرية أحادية الجانب كانت – منذ بداية الحرب – سبباً إضافياً لدفع السوريين إلى المغادرة هرباً من الإرهاب والعنف وتقطع سبل العيش.
لا يريد البعض نهاية للتغريبة السورية، بحيث أصبح الحديث عن عودة السوريين إلى وطنهم، وفق رغبتهم، حديثاً سابقاً لأوانه، ولا يمكن، وحتى إشعار آخر، السماح به – كما يرى مسؤول أممي – كما لاتزال الإدارة الأمريكية تتملص من أية التزامات يفرضها القانون الدولي بهذا الشأن، فيما تطرح بعض دول أوروبا الغربية اشتراطات سياسية في الكواليس، متجاهلة بشكل متعمد رغبة غالبية السوريين في الخارج في العودة بعد تحرير بلداتهم من سيطرة الإرهابيين. ذلك أن مصلحة سورية الحقيقية تكمن في عودة مهجريها ولاجئيها، لأن في عودتهم استعادة للرأسمال البشري السوري واستعادة للاستثمار التربوي والتعليمي والحضاري الذي استغرق العمل به سنوات طويلة، وكلّف الكثير من أموال الشعب السوري، تماماً كما كانت الحرب الوطنية السورية، بكل مراحلها ووقائعها ومجرياتها كلها، “استعادة” موازية للأرض. ويبقى أن هذا الشعب هو الثروة الحقيقية، وأن تجربة التهجير والنزوح هي الدرس الأخلاقي الأهم الذي علم الكثير من السوريين معنى سورية كوطن وكفكرة وملاذ وكرامة شخصية ووطنية، ذلك أن سورية الجديدة ستعود أقوى وأصلب وقد اكتوت بنار الغربة وتعمدت بلهيب الحنين إلى الوطن والأرض ووعي الانتماء إليهما، وحيث سيشكل المهجّرون عنصر قوة وحصانة إضافية للمجتمع السوري الجديد.
بسام هاشم