“التاريخ يصنع أم يكتب؟”.. في ندوة حوارية
من يصنع التاريخ غير الذي يكتبه ومن يتحدث عنه مختلفٌ تماماً عمن كتبه، والمسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالموضوعية والمعلومة الدقيقة الموثقة والتزام الحياد، وكل ما سبق يكاد يكون مستحيلاً، وبالتالي يتم الخلط بين التاريخ والدعاية وبين الحقيقة والهوى، واليوم لم يعد التاريخ يكتب فحسب، بل انتقل إلى مرحلة أكثر خطورة فهو يصنع بكل حرفية ليغدو واقعاً وحقيقة عن رؤية ورواية المسيطر، وفي ندوة “التاريخ يصنع أم يكتب” التي أقامها المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي، قدمت الزميلة الصحفية علا أحمد ورقة عمل تناولت فيها مجموعة من الأفكار الغنية، بدأتها بتعريف علم التاريخ بأنه تسجيل ووصف وتحليل الأحداث التي جرت في الماضي، على أسس علمية محايدة للوصول إلى حقائق وقواعد تساعد على فهم الحاضر واستشراف المستقبل وهو سجل الأحداث والذاكرة الجمعية للمجتمعات، ومع تطور الإنسان العقلي والعلمي أنتجت ضوابط علمية عرفت باسم «منهج البحث التاريخي» الذي هو مجموعة الطرق والتقنيات التي يتبعها المؤرخ للوصول إلى الحقيقة التاريخية، وإعادة بناء الماضي بكل وقائعه وزواياه، وهو يحتاج إلى ثقافة واعية وتتبع دقيق لحركة الزمن التي تؤثر على النص التاريخي.
وتساءلت علا: ولكن لماذا يتم دائماً التشكيك في أن المادة التاريخية المقدمة خاضعة للأهواء أو مغلوطة؟ فيختصر الكلام في جملة شهيرة “التاريخ يكتبه المنتصرون”، هذا التساؤل التشكيكي يؤكد أن السلطة التي تتولى الحكم في حقبة ما تنشر التاريخ الذي تراه مناسباً وتوثق الأحداث من وجهة نظرها، ليصبح التاريخ مجرد تعاقب للأنظمة السياسية وتسلسلاً لصعود وسقوط الحضارات، وإطارا يصنف المجتمعات البشرية وفق علاقاتها مع القوى السياسية القائمة، لافتة إلى أننا اليوم أمام حالة متطورة، فلم يعد طرف واحد من يكتب ويوثق إنما في عصر التكنولوجيا الكل أصبح له مدونته الشخصية ورأيه وأدواته التي يعبر بها عن رؤيته للواقع، وأصبح هناك حالة من التوازي في الأحكام، ووجدت الزميلة علا أن للتاريخ فائدة كبرى وهي جعلنا نتأمل في الماضي ورؤية مزايا الغير وأخطائه والاستفادة منها، وإمكانية تصحيح بعض المعلومات التي التصقت بأشخاص وإعطائهم مكانتهم الصحيحة، لأن العالم مليء بالقصص والشخصيات التي ظلمت عبر التاريخ، إما بناء على مصالح تناسب المرحلة أو وفقاً لأشخاص تناسبهم حقيقة ما على حساب أخرى، ونحن في تاريخنا العربي لا ينقصنا هذا التشويه فهو مليء بهذه الثغرات.
وفيما يخص كيف سيكون تاريخ سورية ما بعد الحرب، رأت علا بأنه على الرغم من أن الكل شاهد على هذه المرحلة ولكن تختلف الآراء وتتباين رغم وضوح الحقيقة في أغلب الأحيان، وما نتعرض له الآن ليس بجديد على تاريخ العالم، فالتاريخ سيكتبه كثيرون من هم على حق ومن هم على باطل وأطراف أخرى أفرزتها معطيات الأزمة، ويبقى المتطلع للتاريخ والباحث عن الحقيقة هو الحكم، مشيرة إلى مجموعة من النقاط المهمة وهي ألا نقولب التاريخ على شكل تابو لا يمكن المساس به، بل يجب إعادة قراءته والتمحص به، والابتعاد عن القراءة الثأرية، مع عدم القسوة على التاريخ مطالبين إياه بما نعجز عنه في حاضرنا.
وأردفت بالقول: إن الإجابة عن تساؤل هل يكتب التاريخ المنتصر؟ هي نعم و لا، أجيب بنعم لأن المنتصر بالفعل سيكتب تاريخا وكذلك للمهزوم أخباره، وأجيب بلا لأن التاريخ أكبر وأعقد وأكثر تشعبا من أن يستطيع أي أحد السيطرة عليه أو توجيهه والباحث عن الحقيقة لن يتوه، أما السؤال هل يكتب التاريخ أم يصنع؟ فإجابته هي: الذي يصنع التاريخ، لا وقت لديه ليكتبه.
الإعلام مصدر للتاريخ
من جهته أكد مدير المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي د.بطرس حلاق على أهمية التمييز بين من يصنع الحدث ومن يكتبه، ومن ينشره، ومن يقرأه، لافتاً إلى أن كتابة التاريخ منهجياً تعتمد على مصادر ومراجع وهو ليس حالة فردية، ورأى أن النقطة الأهم هي من يقرأ التاريخ، ومعرفة كيف يقرأه الجيل الجديد، هل يقرأه من أمهات الكتب أم من وسائل أخرى، مشيراً إلى أن الإعلام يعتبر مصدراً للتاريخ وهو حالياً الجهة الوحيدة التي تنشر تاريخاً وتركز على أحداث وتتجاهل أخرى، وهذا بدا واضحاً في الحرب على سورية، حيث كانت وسائل الإعلام هي من تقول وتتحدث، وأظهرت ما حدث أنه حالة حرية وديمقراطية، مع أن الحقيقة هي بمعزل عن كل ما كتب ونشر، لافتاً إلى أن الدراما كذلك تكتب تاريخاً ومئات الملايين صرفت عليها لتشويه المجتمع السوري، لذا لابد من معرفة من كتب ومن نشر ومن مول.
بداية التأريخ
وأشار د.عبد اللطيف عمران الى أهنية التركيز على مجموعة من النقاط أولها هي مسألة التأريخ ومتى بدأ حيث هناك روايات تقول أنه ابتدأ في السنة العاشرة للهجرة، وقبلها لم يكن هناك أي تأريخ، والنقطة الثانية هي متى انتقل التأريخ من الشفهي إلى الكتابة، وخاصة أنه ليس لدينا علم دقيق متى بدأت الكتابة وتأريخ السيرة النبوية وأحاديث الرسول والفتن الكبرى في الإسلام هي تأريخ شفهي، وأما النقطة الثالثة فهي أننا لا نستطيع في التاريخ أن نشجع المفاخر بالخصوصيات الإقليمية بل نعتبرها نزعات انفصالية، فلا يوجد مصلحة وطنية أو قومية بربط الاعتزاز الوطني والعروبي وعزله على أنه سياق متقدم للجوار، وقد يكون هناك مضار وخطورة من الاعتزاز الإقليمي للشخصية الحضارية، وفيما يخص التاريخ كيف يصنع؟ يرى د. عمران أن التاريخ يصنعه القارئ ويعيد إنتاجه، والمستشرقون صنعوا تاريخاً جديداً للعرب والمسلمين، ويكاد يكون ادوارد سعيد الوحيد الذي قدم ردوداً على قراءات المستشرقين وكيف أن الناس محرومة من سرد تاريخها، مشيراً إلى أن هناك تحدياً كبيراً هو طرح التاريخ الجديد ومسألة (المؤرخون الجدد).
تباين الآراء
وركزت المداخلات التي طرحت في الندوة على مجموعة من الأفكار منها أن أي تاريخ لا يملك صفة المصداقية فهو يكتب بناء على أهواء كاتبه، لذلك لن نصل إلى حقيقة تاريخية نستطيع اعتمادها، وهو حالة متغيرة غير ثابتة، كما أنه تاريخ مظلوم سواء كتبه المنتصر أم المهزوم، ومعظم تاريخنا مستند على دراسات المستشرقين، كما لفت البعض إلى أن التاريخ عند العرب هو مشكلة تساهم في تأخرنا وتخلفنا لأننا نتعامل معه بقدسية ونسعى لإعادته في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون إلى التطلع للمستقبل، في إشارة إلى أن مقولة “التاريخ يكتبه المنتصر” هي فكرة جديدة وليست قديمة وهي مرتبطة بفكرة القادة العظماء، أما محاولات إعادة قراءة التاريخ العربي فهي لن تؤدي إلى أي جدوى، فكيف سنعيد قراءة التاريخ في ظل التدخل الغربي والصراعات الداخلية والمذهبية، والتأكيد على خطورة القراءة الإيديولوجية العقائدية للتاريخ، وركزت مداخلات البعض على فكرة من هو قارئ التاريخ وعلينا أن نكون دقيقين وتفصيليين وموضوعيين، لأن قراءة الحدث وقراءة الأعمال الدرامية تختلف حسب المعطى التاريخي، وقراءة مسلسل ما تختلف في مرحلة قبل الأزمة عن ما بعدها، لذا لابد أن نكون أكثر عمقاً في القراءة. بينما شدد البعض على أنه يفترض ألا يتم التعاطي مع التاريخ كموقف، وأنه لن يكون هناك توافق على أي قضية على المستوى التاريخي، لأن التاريخ المكتوب هو تاريخ مسوق وهناك وثائق تدعمه وأخرى تدحضه، وعلى الرغم من معرفتنا بأن بعض الوثائق كاذبة إلا أنها تستقطب الناس وتثير الفضول والانتباه وتظهر كواقع وبذلك سيبقى التاريخ مزوراً ومخالفاً للحقيقة.
كذلك رأى البعض أن المحاكمة العقلية هي الفيصل في النظر إلى التاريخ، والتاريخ ليس وجها واحدا، ولا حيادية في كتابته، بل التاريخ انتماء وهوية ويكتب كل شخص ما يريده، لذا يجب أن نضع كل حدث تحت المجهر، وميز البعض بين السرد والتأويل فالكتابات التاريخية تقبل الكثير من التأويل والتفسيرات المتباينة، وذهب البعض إلى اعتبار أن المشكلة تكمن في من يقرأ التاريخ وليس من يكتبه، مع ضرورة أن يكون المؤرخ منطقيا بعيدا عن العواطف، وفي الزمن الراهن من يكتب التاريخ هو من يملك وسائل التواصل الجماهيرية.
لوردا فوزي