يا دجلة الخير (7)
د. نضال الصالح
ولم تكد خزامى تمسك بي متلعثماً بسؤال صريع بين شفتي، بل بأسئلة، حتى عاجلتني بإيماءة من رأسها وعينيها أن “نعم”، وكانت تعني الصورة التي كنت أرى، صورة سامي، وبالقول: “زوجي”، ووضعت يدها على رأس الطفلة جوارها، وتابعت: “وهذه ديالى ابنتنا، ولدتْ بعد استشهاده بشهرين”.
وبينما “استكان” الشاي، الكوب بتعبير العراقيين، مسوّرٌ بإبهام يميني وشاهدته وأتهيّأ لأوّل رشفة منه، وبينما كنت موزعاً بين الثلاثة، صورة سامي وخزامى وديالى، أرعدتني بسؤالها وهي تغمز بطرف عينها: “أما زلت تكتب الرسائل لأصدقائك العشّاق؟”، وكاد الكوب يسقط من يدي من وطأة المفاجأة لولا أن أسرعتُ إلى وضعه على الطاولة الصغيرة أمامي، ولولا أن أسرعتْ خزامى نفسها إلى إطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقّى في جسدي من شهوة الحياة: “حكى سامي لي كلّ شيء قبل ليلة من استشهاده”، وتابعت: “كأنّه كان يحدس بموته، بل باستشهاده”، ثمّ أخذت ديالى إلى صدرها من جديد، وقالت: “كنتُ أريد أن أسميها شام، وكان يرجوني أن أسميها بغداد”، وأكملت وهي تمسح على شعر ديالى المسترسل بغبطة فوق كتفيها: “ولأنني، لحظة سؤال الموظف عن الاسم الذي نشاء لها، كنت بين الصحو والغياب، اختارت أمّي اسم ديالى لها”، ثمّ وهي تدفع بزفرة شحماء خارج رئتيها: “سأحكي لك الحكاية بعد أن ترتاح قليلاً”، وكانت تقصد اختيار أمّها هذا الاسم، وكنتُ أستعيد ما كنت أكتب من رسائل لها باسم سامي، ولاسيما ترنّمي بحروف اسمها، فلازمة سامي: “يا أصمعيّ ليتني كنتُ شاعراً مثلك”، فلازمتي التي أهمس بها لنفسي: “ألا يكفيك أنّ خزاماك أجمل قصيدة في ديوان السماء”.
لم أشأ أن أسأل خزامى عن سبب اختيار أمها اسم ديالى بدلاً من شام أو بغداد، ولم تحدثني هي عن ذلك. اكتفيتُ بحكايتها عن سرّ اختفاء سامي بعد نحو شهر من سفرها وأسرتها من دمشق إلى بغداد: “لحقَ بي إلى هنا، وبعد زواجنا بأيام قليلة غادر البيت قائلاً إنّه سيمضي بعض الوقت مع شباب سوريين كان تعرّف إليهم في رحلة سفره بالبولمان من دمشق إلى بغداد، ولكنه لم يعد. كانت بغداد فوق قرنيّ ثور هائج بسبب الاحتلال الأمريكي، ولذلك لم يكن ممكناً معرفة أيّ شيء عنه حتى ذلك اليوم الذي بلغَنا في ظهيرته نبأ استشهاده مع مجموعة من المقاتلين العرب في مواجهة الأمريكيين”.
وبعد أن كفكفت الدمع الذي ندّى خدّيها أخرجت من حقيبتها مغلّفاً صغيراً ودفعت به إليّ، وقالت: “افتحه، فيه رسالة منه، حملها إليّ أحد الشباب الذين كانوا معه في وحدة المقاتلين العرب، شاب من عندكم في سورية، من حلب”، ثمّ أرغمتْ ابتسامة ناحلة على التورّم بين شفتيها وهي تقول: “الرسالة الوحيدة التي كتبها إليّ بنفسه”، وتمنّت عليّ أن أقرأها بصوت نسمعه نحن الثلاثة، هي وديالى وأنا.
بيدين مرهقتين بخفْقٍ جليل وعينين مضطربتين بدمع أسير فيهما كنت أقرأ، وممّا لن أنسى ممّا قرأت:
علّمي بغداد (يقصد ديالى كما كان يريد أن يكون اسمها) أنّ الله أرسل بضعة من مطلقه إلى الأرض، فكانت دمشق وكانت بغداد.