ضرورة الشعر
الفكرة الأساس في هذه المقالة تدّعي أن الفنان الحقيقي يطلب الكمال دائماً، دون أن يعني ذلك أنه يحصّله أو يصل إليه، شأنه في ذلك شأن الرواد والمصلحين والفلاسفة.. فمن طبيعة الكمال أن يبقى في أفق الممكن دائماً، وأن يبقى المثال الذي يحاول الجميع أن يتقرّبوا منه، إنه الحافز الذي يدفع إلى الإتقان والتجويد، ويدفع إلى النضال من أجل ذلك كله. والشاعر الحقيقي، كأي مبدع آخر، لا يقنع بما أنجزه مهما كان ما أنجزه عظيماً، وإنما يتطلع باستمرار إلى النص الذي لم ينجزه بعد، أي النص الذي يشتهي أن ينجزه، ويشعر بالخوف والرهبة من الإخفاق والعجز عن قول القصيدة التي تراوده ويحلم بقولها. إنه يرى التماثيل الرائعة والحوريات الرشيقات وربات الجمال التي مازالت محبوسة في الحجر الغشيم وتنتظره ليحررها من أسرها (كما كان الفنان العظيم مايكل أنجلو يقول).
الشعر، في معنى من معانيه، بل في أهم معانيه، بحث عن الجمال الكامن في الأشياء والأقوال والأفعال والأحداث، وانطلاقاً من هذا الفهم للشعر يمكننا أن نقول: إن كل إنسان شاعر بمقدار ما يستطيع كشفه من ذلك الجمال، ثم يحوز لقب الشاعر بعد ذلك من كانت حصته من الكشف أعمق، وطريقته في تقديم ما اكتشفه أرشق (ضمن ضوابط تم التواطؤ عليها واعتمادها كأدوات لابد من امتلاكها وحسن توظيفها). الشعر، إذن، بحث عن الجمال المتخفّي ومحاولة لإظهاره والاستمتاع به، والجمال كما يعرف القارئ الكريم أحد القيم الثلاث الكبرى: الحق والخير والجمال، بل إن هذه القيم ترتد إلى قيمة الجمال وحدها حين يتعلق الأمر بالفنون. فالشعر ليس لهو ساعة، وليس لغواً أو انشغالاً فيما لا طائل تحته، إنه أحد أساليب الإنسان في البحث عن كنه الوجود وحقيقته وغاياته. والشاعر، أعني الشاعر الحقيقي، وإن بدا، في بعض الأحيان، عبثياً ولا مبالياً وعدمياً، أو سادراً في لهوه وغيّه، أو غير منتمٍ لشيء أو لموقف أو لقضية فإنه، شاء أم أبى، لا ينفك يبحث عن الجمال، أي عن الحق والخير والكمال: الكمال في نصوصه من حيث المبنى والمعنى والمغزى، والكمال في العالم الذي يعيش فيه ليصبح أكثر جمالاً وعدلاً وأقل قبحاً وظلماً. والدليل على ما أقوله أننا نجد نصوص الشاعر الحقيقي ترتقي باستمرار في سلم القيم الفنية، فكل نص ينجزه مقدمة لنص أكثر جمالاً وعمقاً، وكل مرتبة يبلغها لا تعدو أن تكون درجة من درجات سلم الكمال الذي يقوده إلى عالم المُثُل، حيث الحقيقة التي تحررت من الزيف، ومن كل ما يحجبها عن غير المستحقين من البشر.
أقول المثل عموماً ولا أقول مثال الشعر خاصة، وعالم المثل هو عالم الكمال بأشمل معانيه. صحيح أن الشاعر الفرد، أي شاعر، لن يدرك ذلك العالم (فالعمر قصير والغايات بعيدة)، ولكنه يحاول أن يتقرّب منه باستمرار، مما يجعل الشعر عموماً يقترب أكثر فأكثر من عالم المثل نتيجة التراكم وتضافر التجارب على مر العصور. قلت ما قلت وأنا على ثقة بأن القارئ يتذكر أن الخير ضرب من الكمال وأن الحق والجمال غايتان من غاياته. وطالما أن الشعر بحث عن الجمال الكامن في مفردات الوجود (الوجود الطبيعي والوجود الإنساني) فإنه ضرورة من الضرورات، لا ريب في ذلك، ولا ينكر هذه الحقيقة إلا من قسا قلبه، وتجهمت مشاعره، وأقام في نفسه أسواراً غليظة تحول دون الشعور بالجمال والإحساس بالحق والخير الثاويان فيه. بل إن من ينكر ضرورة الشعر (وضرورة الفن عموماً) كالذي يحرم العقل من التفكير، واللسان من الكلام؟!. والشعر الحقيقي، وإن ارتبط بالإنسان وقضاياه فإنه يتعالى عن الارتباط بالآني والراهن فقط، فالشاعر يتوهم، وينبغي أن يتوهم، أنه يكتب لكل مكان ولكل زمان وليس لأبناء جيله أو بيئته فقط، إنه يكتب للإنسان عموماً وللعالم قاطبة، وهذا ديدن الشعراء الكبار، وهو أحد أهم أسرار خلود بعض النصوص وقدرتها على تجاوز الزمان والمكان واللغات، نقيض الشعراء الذين تأخذهم ضجة الأحداث الصغيرة، فيجدونها فرصة للكتابة من وحي المناسبة العابرة، حتى إذا انجلت الأحداث وقرّ قرارها ضاع ما كتبوه كأنه لم يكن، لأنه، في الحقيقة، لم يكن شيئاً يحسب في عالم الفن والشعر، وإنما كان مجرد صوت من أصوات الضجيج الذي رافق تلك الأحداث الصغيرة. وبالمناسبة، فإني أعرف فيمن أعرف من يجيد الوزن وكيل الكلام بمكاييل الخليل بن أحمد الفراهيدي، فينظم ما يظنه شعرا، يصف فيه أموراً وأحداثاً كان من حقها أن يعبّر عنها بالنثر في مقالة أو خاطرة. إن هؤلاء يمتهنون الشعر ويزدرونه حين يحسبون أنه مجرد إقامة الوزن ونظم الكلام الخاوي من صفات الشعر الحقيقية الأخرى، إنهم يحتفون بجثة الشعر ولا يهتمون بروحه؟! .
الشعر، إذن، ليس للتسلية أو لإثارة الضحك أو للتعليل والمحاججة وتقديم البرهان.. الشعر لخلق النشوة في النفوس المستعدة، والقارئ يتلقى الشعر بكامل شخصيته، لذلك تعروه هزة الطرب التي لا تعرفها إلا النفوس الشفافة التي تدربت على التلقي والتذوق السليم، والتي تستطيع أن تشارك في إعادة بناء النصوص الشعرية عن طريق التأويل والتمعني والبحث عن المغزى الشخصي الخاص، ولا تستطيع تقديم تلك النشوة والبهجة إلا النصوص الشعرية الحقيقية.
محمد راتب الحلاق