مقامات الروح
عرف مصطلح ” الروح” العديد من التعريفات التي خاضت به، سواء كانت ذات بعد فلسفي أو ديني أو فكري، لكن ما اصطلح عليه بشأنها عموما هو في كونها: كيان خارق للطبيعة، غالباً ما يكون ذو طبيعة غير ملموسة على غرار كيانات مماثلة أخرى كالأشباح والجنيات والملائكة، يحمل المصطلح طابعا دينيا وفلسفيا وثقافيا يختلف تعريفه وتحديد ماهيته في الأديان والفلسفات والثقافات المختلفة، ولكن هناك رأي سائد عبر كثير من الأديان والاعتقادات والثقافات البشرية أن الإيمان بوجودها يجسد مفهوم المادة الأثيرية الأصلية الخاصة بالكائنات الحية؛ استنادا إلى بعض الديانات والفلسفات، فإن الروح مخلوقةً من جنسٍ لا نظير له في الوجود مع الاعتقاد بكونها الأساس للإدراك والوعي والشعور عند الإنسان. ويختلف مصطلح الروح عن النفس حسب الاعتقادات الدينية، فالبعض يرى النفس هي الروح والجسد مجتمعين، ويرى البعض الآخر أن النفس قد تكون أو لا تكون خالدة ولكن الروح خالدة حتى بعد موت الجسد.
يقال: إن الروح تلحق صاحبها إن صار وانتقل من بلده لبلد آخر، لهذا يبقى الشخص المهاجر أو حتى المسافر، يشعر بكونه بلا روح في الفترة الزمنية الأولى من غربته، وهذا صحيح نسبيا، حتى تجيء روحه وتلحقه على مهلها بعد أن بقيت جالسة حيث كانت بعد أن غادر صاحبها، تتأمل ذهابه، ولتتفرغ لما عليها من واجبات روحية قبل الذهاب، حيث ستقوم بطقوسها المعتادة في الوداع وترك الرسائل في شقوق البيوت والقلوب وحتى النوايا، قبلت هذا وغطت ذاك، أكلت كعك العيد هنا وشربت من نبع هناك، زارت بيتا عزيزا على روحها، بكت ضحكت وقامت بكل ما يجعلها قادرة على احتمال تباريح الغربة، حتى تلتحق بصاحبها حيث هو، تلمه وكأنها لفحة هواء دافئ، تلفه كله كشرنقة، سيخرج منها بعد لحظات بأبهى حلة، -عادت له الروح-، أو ربما ارتطمت فيه كشاحنة وحطمت كل أضلاعه بثقل حمولة الحنين والذكرى التي تحملها، قبل أن تستقر حيث يقوم مقامها عادة، حينها يبدأ ما يسمى بالتأقلم، أما اسمه الحقيقي فهو “عودة الروح الغائبة”.
إلا أن مقام الروح ومكانها وآلتها بقت مصدر خلاف بين أهل الفكر والفلاسفة وحتى رجال الدين الذين اجتهد بعضهم بما نهي عنه “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً” لكن هذا لم يمنع أن يقدم الإنسان أفكاره عن تلك الهالة التي يعرف أنها موجودة ولكن كيف وأين فهذا من العسير فهمه، حيث قامت أغلب الأديان بالتعامل مع الروح وفق نفس المنطق “الحاضرة الغائبة” وإليها ينسب السمو والرفعة واللعنة كذلك الأمر –يقال: “يا لعين الروح مثلا” أما مقام الروح في الجسد، فهي وحسب فهم أحد المتصوفة: بالتأكيد موجودة لكنها لا داخلة فيه – أي الجسد- ولا خارجة عنه، وكان أن خضع هذا الفهم لها، لتحليلات عميقة قام بها العديد من الفلاسفة والمفكرين والمتصوفين، ومن أهم وأجمل ما قيل في الروح وفي وصفها ما يلي: “الروح هي ذَات لَطِيفَة كَالْهَوَاءِ سَارِيَة فِي الْجَسَد كَسَرَيَانِ الْمَاء فِي عُرُوق الشَّجَر”.
لكن الفلاسفة وأهل العلم لن يتركوا شأنا خطيرا كشأن الروح خصوصا والتفاسير التي تصدت لمعرفتها لم تقدم أدلة شافية وكافية عنها، وها هو “أفلاطون” -427-347 ق.م- يعتبرها كأساس لكينونة الإنسان والمحرك الأساسي له، كما اعتقد بأن الروح تتكون من ثلاثة أجزاء: العقل والنفس والرغبة، وكان أفلاطون يقصد بالنفس المتطلبات العاطفية أو الشعورية وكان يعني بالرغبة المتطلبات الجسدية، حيث أعطى مثالا لتوضيح وجهة نظره باستخدام عربة يقودها حصانان هما الرغبة والنفس، والروح هي من تنظم سير هذه العربة، حسب كثافتها بالحق والمعرفة والقدرة على الانعتاق من الأوهام، وقبول العالم لكن ليس كما ظهر على حاله، بل برموزه التي تقود إلى فهمه بلا جنوح وتطرف، وبطبيعة الحال هذا يقود لفهم الروح، فهي من رموزه الأشد إثارة للسؤال.
أما “أرسطو” -384-322- فقام بتعريف الروح كمحور رئيسي للوجود ولكنه لم يعتبر الروح وجودا مستقلا عن الجسد أو شيئا غير ملموس يسكن، لذا اعتبرها أي الروح مرادفا للكينونة ولم يعتبر الروح كينونة خاصة تسكن الجسد، واستخدم السكين كمثال لتوضيح فكرته، فقال: “إذا افترضنا أن للسكين روحا فإن عملية القطع هي الروح وعليه وحسب أرسطو فإن الغرض الرئيسي للكائن هو الروح، وبذلك يمكن الاستنتاج أن أرسطو لم يعتبر الروح شيئا خالدا فمع تدمير السكين تنعدم عملية القطع.
وفي العلم التجريدي، فإن الروح هي تلك المادة البيضاء والمادة الرمادية اللتان تنقلان السيالات العصبية، وتجعلان الجسم على ما هو عليه، وأي اعتلال في واحدة من المادتين، سينعكس بالتأكيد على الجسد، الذي سوف يتداعى حسب هذا الاعتلال وشدته. أما السؤال عن كيف تعلم الروح طريق السفر الذي سلكه صاحبها، وكيف وجدته بين هذه الزحام والضجيج الذي لا يحتمل، فهذا أيضا يستحق التأمل والتفكر.
تمّام علي بركات