ثقافةصحيفة البعث

“بنت العرّاب” في ندوة نقدية

“بنت العرّاب” للروائية إيمان شرباتي، الرواية التي بُني إيقاعها على الرموز والدلائل والتوثيق في ظل الحرب الإرهابية، وعلى موسيقا الحبّ المختبئ خلف الأضلاع، انطلقت من باب توما إلى فضاءات بعيدة وقصص حبّ بقيت نهاياتها مفتوحة، والكثير الكثير من الرسائل، كانت محور ندوة نقدية قدمتها الباحثة سمر التغلبي في المركز الثقافي العربي –كفر سوسة، فبدأت بقولها”قرأتُ الوطن بكل تفاصيله، قرأتُ الحبّ والحرب الهدوء والثورة، قرأتُ الفصول بتقلباتها ليس فقط في دوران الأرض حول الشمس، بل في دوران الدهر في نفوس البشر”.

اتخذت الروائية شرباتي أسلوب السرد بالعودة إلى الماضي على غرار الفلاش باك أو ما يعرف بارتداد الذاكرة بصوت البطلة ملك الطفلة التي دخلت المنزل كخادمة أميّة في العاشرة، لتغدو أحد أركان البيت الدمشقي العريق، البيت الذي يرمز إلى سورية.

وقبل أن تنطلق الباحثة في تحليلها أحداث الرواية ومنعطفاتها قدمت لمحة عن مجريات الأحداث، إذ تدور في حي باب توما المكان الأساسي في الرواية في بيت لعائلة مسيحية عريقة تجتمع فيه كل التناقضات ومع ذلك تذوب كل الاختلافات، البيت الذي لم يفتح بابه فقط لتلك الصغيرة بل فتح قلوب قاطنيه لها حين وقّع والدها مع ناصر صاحب البيت عقد بيعها راضخاً لإملاءات زوجته أم خالد، فعاملها ناصر معاملة الابنة ليس لكرم أخلاقه فقط، وإنما لرد جميل أبيها السجان جابر الذي استطاع بإنسانيته تحويل السجن الذي كان فيه إلى مكان ليس له من السجن إلا جدرانه.

شخصيات متناقضة

وتوقفت  المحاضرة عند الشخصيات الرئيسة في الرواية التي تساوت تقريباً في مواضعها خلال سرد الأحداث إضافة إلى الشخصيات الثانوية.

ناصر الشخصية الرئيسة التي بدأت منها الرواية كاتب مسيحي مثقف محبّ للآخرين متعاون متمسك بالعادات والتقاليد وبالموروث الحضاري جعلته الروائية رمزاً لدمشق بكل أطرها الحضارية والثقافية والإنسانية.

زهرة السيدة الراقية المعطاءة التي تحضر يومياً لمنزل ناصر لخدمة العائلة كما وعدت ميرفت زوجة ناصر قبل موتها، هذا المعلن أما المخفي فبقي لا يغادر الصدور الملتاعة، وبقي سر ناصر وزهرة حبيس القلوب، لتتوقف الباحثة إزاء هذا الحدث الذي باحت زهرة بجزء منه أملاً بإنعاش نكران أبوّة لتدخله الكاتبة في سبات لم تعلن عن نهايته، ليبقى السر لغزاً.

ملك الساردة لأحداث الرواية الطفلة الأميّة التي دخلت منزل ناصر كخادمة وأصبحت بمكانة ابنته، وشاهدة على الأحداث.

جورج ابن أخت ناصر الذي تحوّلت غيرته من ملك التي يدللها خاله إلى حبّ جارف لها درس الطب وتخصص بجراحة العيون.

سماح ابنة زهرة التي فارقتها وهي بالثانية من عمرها لتلتقي معها وهي صيدلانية ومحجبة ومخطوبة، بقيت في مصر بعد وفاة والدها.

ممدوح الشخصية الأكثر تعقيداً المتمرد على القيم الموروثة تمرد حتى على مرضه ورفض العلاج وانتظر الموت على طريقته. وأمجد ابن ناصر يتيم الأم المصاب بالتوحد، ومريم أخت ناصر وزوجها مطانيوس، جابر والد ملك السجان وخالد أخوها وأم خالد زوجة أبيها وأحمد رفيق طفولتها وجدتها لتنتقل إلى شخصيات عابرة جارة جدتها وسائق التاكسي وغيرهم.

رموز تعود إلى التاريخ

السمات التي ركزت عليها الباحثة في تحليلها للرواية هي الرمز الذي شكّل فنية روائية ذات أبعاد وخلفية فبيت ناصر كان رمزاً لدمشق التي تدمشق من يسكن فيها ليفوح عطر ياسمينها على قاطنيها، أما ناصر فهو رمز لتاريخ دمشق الذي احتضن الحضارات واحتوى الأديان، إلا أنه كما جسدته الراوية يأبى الانتقال من الموروث إلى التجديد فكراً وسلوكاً حتى لو كان هو من سيدفع الثمن.

الأمر اللافت هو الرمز إلى سورية من خلال شخصية ملك التي لا تعرف انتماء لها سوى انتمائها للوطن فناصر الذي رباها كان مسيحياً وزهرة المسلمة كانت بمكانة أمها. لتنتقل إلى الكثير من الدلائل الموحية بالإسقاطات على واقع الحرب الإرهابية فالسبات الذي دخل فيه ناصر هو تاريخ سورية الذي تعرض للنكران، والمرض العضال الذي شفي منه ممدوح هاجمه مرة ثانية ليتمكن منه ويقضي عليه في إشارة إلى تجديد الحروب والاعتداءات على سورية من قبل أعدائها وتخريبها الكثير من أوابدها، وخسارتها الكثير من شبابها، وتنكر سماح لوالدها هو تنكر لتاريخ دمشق، وعلاقة زهرة بناصر رمز لعلاقة المسلمين بالمسيحيين التي اكتملت حتى التمازج، لكن في الرواية دخلت أسوار القلب وبقيت سجينة تنقصها الشرعية والعلن.

وتوقفت الباحثة عند ثلاثة عناصر اعتمدتها الكاتبة في توثيقها للحرب الذي وصفته بالتوثيق الإنساني لانعكاسات الحرب التي يعيشها السوريون تسربت إلى صفحات الرواية من خلال نشرات الأخبار، والتوثيق أيضاً عبْر المناقشات الحادة داخل البيوت والتي نتجت عنها مواقف بين مؤيد ومعارض، لتصل إلى التوثيق اليومي الدقيق لتفاعل السوريين مع أحداث الحرب ابتداءً من حالة الهلع بسقوط القذائف وانتهاءً بقدرتهم العجيبة على ممارسة حياتهم اليومية وسط الموت، ولم يقتصر التوثيق على مجريات الحرب إذ انسحب إلى معالم دمشق التاريخية مثل الجامع الأموي وإلى أحداث هامة عاشتها سورية مثل صعود فارس خوري على منبر الأموي.

في المحور الثاني من الندوة أشادت الباحثة بالبنية المتكاملة للرواية عامة من حيث السرد والحوار والوصف واللغة فشبهتها بالبناء المعماري المتكامل، وأشادت بتماسك الرواية من حيث الزمن لاسيما أن السرد بارتداد الذاكرة إلى الماضي بالخطف خلفاً، والذي ينقل القارئ إلى أزمنة مختلفة، وتابعت عن الانسيابية في التعبير وإثارة التشويق بالأحداث، لتتوقف مطولاً عند البناء الروائي فالسرد على لسان ملك ويأخذ أحياناً شكل الحوار مع الذات”لأول مرة في حياتي أشعر أنه صار لي موقف ثابت” ونوّهت إلى خاصية فنية بتداخل الحوار مع السرد في مواضع، وبالقدرة العالية على التصوير أثناء السرد”لغة العيون لغة غامضة هي نوافذ الروح ترسل الكثير من الإشارات غير المرئية، وتعبّر عما يجول فيها لأنها مفطورة على الصدق” وفي المنحى ذاته برعت الكاتبة بتصوير شخصيتين متناقضتين شكلاً ومضموناً مثل شخصية ناصر وممدوح.

أما الوصف فاتخذ أسلوب الوصف المادي لتغيرات الطبيعة مثل وصف الثلج”وسرنا في الشوارع على غير هدى وذرات الثلج تلفنا بدواماتها”، والوصف المعنوي الذي بدا فيه انزياح العالم الظاهر إلى الباطن” الإيمان قد يكون شعاعاً ينفذ إلى قلبك ساعة صفاء”.

والخاصية الفنية التي أشارت إليها الباحثة التغلبي أيضاً هي تناغم الحوار واللغة وتناسب قوة الحوار وجزالة اللغة مع الشخصية مثل حوارات ناصر، لتأتي بسيطة في شخصية أخرى، لتنهي رؤيتها بأن الكاتبة تركت القارئ على حافة الضياع، ربما لمراوغة الكاتبة ليبقى القارئ على قيد حلم لاتؤطره رواية.

ملده شويكاني

 

 

Comments are closed.