ركود غير مفهوم يخيم على السوق العقارية حسابات الحقل خالفت غلال البيدر.. والدهاة يصوبون أنظارهم نحو الأراضي الدسمة
ينتاب السوق العقارية ومنذ أربعة شهور حالة من الركود غير المفهوم نظراً لتزامن هذا الركود مع تحسن الأوضاع الأمنية بشكل ملحوظ، إذ كان من المتوقع أن تشهد كثير من مناطق ريف دمشق تحديداً نشاطاً لافتاً بالتوازي مع استقرار هذه الأوضاع الأمنية، بدليل استمرار تجار البناء بأعمال الإنشاء والتعمير وحتى الإكساء آملين جني أرباح دسمة لم تتحقق حتى اللحظة وفق حسابات الحقل والبيدر! والمفارقة أن أسعار الوحدات السكنية المعروضة للبيع لا تزال مرتفعة، في مشهد يثبت أن هذا القطاع بات بالفعل خارج المنطق التجاري وكأن له خصوصية معينة تجعله متمرداً على جميع قواعد السوق وأدبياته، حيث لم تشهد الأسعار خلال فترة الأزمة ارتفاعات ملحوظة توحي أنه يشكل بالفعل ملاذاً آمناً يدفع بالسوريين للتوجه إلى تجميد أموالهم فيه بغية الحفاظ على قيمة عملتهم ريثما تنقشع ضبابية الأزمة الحالية، وبنفس الوقت لم تنخفض الأسعار بشكل يؤكد أن العقار السوري يتأثر بالأزمات كما يحصل في كثير من دول العالم، وإنما بقي ارتياب أسعاره ضمن الحدود الطبيعية في المجمل إذا ما قيست بتذبذب سعر صرف الليرة مقابل الدولار، بمعنى أن سعر الشقة الذي كان 1.5 مليون ليرة – قبل الأزمة أيام كان سعر الصرف بحدود الـ50 ليرة – أصبح حوالي 15 مليوناً أي يتناسب مع سعر الصرف الحالي المقدر بحدود الـ 450 ليرة، باستثناء بعض المناطق التي شهدت توتراً كبيراً!
قصة الأراضي
هذا بالنسبة للوحدات السكنية والتجارية، أما بالنسبة للأراضي فهي قصة أخرى.. فمن يحاول سبر حيثيات السوق سرعان ما يكتشف أن الأراضي بنظر دهاة التجار هي الملاذ الأكثر أماناً حتى من الذهب والدولار أوقات ما كان الأخيران مصابين بحالة من عدم الاستقرار، وذلك على اعتبار أنها –أي الأرض- بعيدة كل البعد عن الخسارة، حيث لم تسجل -على الأقل- طوال العقد الأخير أية حالة بيع لأرض خسر بها صاحبها، والأمر الآخر الداخل في حسابات التجار هو تعويلهم على مرحلة الإعمار وبأنها ستكون الأكثر ازدهاراً بالنسبة لسوق العقار، ومن يشتري أراضي الآن وإن بأسعار خيالية كما يحلو للبعض تسميتها، سيحصد ثروات هائلة تقفز به لمصاف رجال الأعمال!
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه سبق للأراضي أن شهدت مثل هذا الإقبال قبل سنوات الانفتاح الاقتصادي الأخير، خاصة الواقعة منها في أطراف الريف الدمشقي، وتلك المحاذية لأتوستراد دمشق– درعا، عندما قام عدد من (المليئين مالياً) لاكتنازها بغية استثمارها كهدف معلن، يتستر بالحقيقة على آخر مخفي هو المضاربة، وكانت النتيجة تأجيج أسعار السوق العقارية بالمجمل، نتيجة احتكار بعض المساحات ذات المزايا الاستثمارية من قبل عدد محدود من رجال الأعمال الذين دخلوا هذا المضمار بقصد المضاربة وليس الاستثمار، والحقائق تؤكد امتلاك أحد رجال الأعمال لنحو 2000 دونم دون أي استثمار لها!
ضبابية
نعتقد أن عدم شفافية هذا القطاع في مرحلة ما قبل الأزمة لها علاقة مباشرة بما يكتنفه من تناقضات أفضت بالنتيجة إلى تحكمه من قبل التجار الذين يسيطرون على ما يقارب الـ70% منه إن لم يكن أكثر، ويمكننا القول: إن كمية العرض والطلب الحقيقية لم تكن واضحة بالنسبة للعارض والطالب، كي يدركا ما الذي حدث أثناء الأزمة، فقد كان هناك هوامش مخفية في السوق العقارية، لذلك فإن زيادة الطلب للحفاظ على قيمة العملة لم تؤدِّ إلى ارتفاعات كبيرة نظراً لوجود حجم كبير من العرض غير الظاهر، بمعنى أن العرض الظاهر امتص الطلب القادم من خلفيات الأزمة، ما منع بالتالي من جنوح الأسعار نحو الصعود، لأن زيادة الطلب الجزئية لم تكن كافية للتغيير في معطيات السوق في ظل وجود عرض كبير وطلب غير مُفعّل.
سبق لنا وأن أشرنا في أكثر من مناسبة إلى أن ثمة أزمة إدارة يعاني منها هذا القطاع، تتمثل بغياب التدخل الحكومي وإفساح المجال للقطاع الخاص المسيطر على السوق والذي لا مصلحة له بأي نوع من التدخل، ما أدى إلى وجود معروض كبير يحجم عن تلبية الطلب، وهنا نشير إلى ضرورة تدخل الحكومة التي لا نشكك بعجزها عن حل هذه المعضلة وتأمين معروض يلبي هذا الطلب، على اعتبار أن تدخلها عادة ما يكون كمياً وليس نوعياً، كما فعلت وزارة الإسكان والتعمير لدى طرحها 50 ألف وحدة سكنية خلال السنوات الأولى من الأزمة، كما يفترض بالحكومة إيجاد السبل والوسائل الإدارية لضبط السوق، ولاسيما أن سبق لها وأن طرحت بعض الطروحات مثل زيادة الضرائب والرسوم على من يملك أكثر من مسكن بغية وضع مزيد من الضغوط لإشغال الوحدات الشاغرة أو بيعها، والحد من الاحتكارات لكنها لم تجد سبيلها إلى التنفيذ رغم أنها أحد أدوات التدخل الناجعة.
تحدي التمويل
لعل الأداة الأخرى للتدخل الحكومي تكمن بإيجاد معروض سكني إضافي يستجيب للطلب غير المفعّل، رغم أن هذا الأمر يحتاج إلى تمويل وهو ما قد يعتبر معضلة أو تحدياً أمام الحكومة، وعليها أن تحدد مدى أولوية ضخ السيولة في هذا الاتجاه لتأمين الوحدات السكنية المطلوبة وبأسعار تناسب الدخل القومي لمواطنيها، لا أن يبقى جلّ الساحة العقارية ملكاً للقطاع الخاص وممارساته الاحتكارية، ونعتقد أن لدى حكومتنا بعض الموارد الكفيلة بتحقيق عرض ينافس القطاع الخاص فيما لو اعتبرت أن السكن أولوية تستحق الاهتمام بها، بدليل أنها خصصت عام 2012 نحو ملياري ليرة سورية لتأسيس صندوق سيادي وطني لدعم تداولات بورصة دمشق والتي نعتقد أنها تأتي بالمقام الثاني بالنسبة للعقار!
رغم أن المصارف تؤدي دوراً كبيراً بتحريك سوق العقار بما يلبي احتياجات طالبي السكن، إلا أن دورها حالياً معدوم في هذا الاتجاه لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بحيثيات الأزمة التي ألغت القروض، مع الإشارة إلى أن دورها قبل الأزمة كان شبه معدوم نظراً للشروط غير الميسرة التي كانت تفرضها على هذا الجانب، ولعل الحل الأمثل لتفعيل دور المصارف في هذا الجانب يتمثل بأن يكون هناك دعم مباشر أو غير مباشر من الدولة لهذا النوع من القروض شريطة أن يوجه لشريحة الدخول المتدنية حصراً، وذلك إما عن طريق دعم الفوائد أو عن طريق تحرير الاحتياطات مقابل قروض الإسكان، فهذا من شأنه تشجيع المصارف للدخول في هذا المضمار، مع الإشارة إلى أن قروض الإسكان مجدية وتحقق ربحية جيدة للمصرف.
حسن النابلسي
hasanla@yahoo.com