الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

روح الأمكنة

 

تفقد الأماكن روحها إذا تغيرت هويتها، ملامحها التي عُرفت فيها لم تعد هي، وبالتالي كل ما يتعلق بذاك المكان يصبح ذكرى عالقة في الماضي فقط، حتى لو بقي قائما ولكن مع التحديث صارت موضة المقاهي، بشاشات بلازما وزعيق لا ينتهي للاعبي الشدة والطاولة.
هذا التحديث كان السبب في خراب الروح الحقيقية لواحد من أجمل الأماكن في الذاكرة الجمعية لأهل المدينة الساحلية البديعة “جبلة”، ففي المقهى الذي كان يقع قرب كراج السفر، والذي كان يفتح طوال الليل وكأنه محطة لا تنام، يجلس المسافرون يبددون وقتهم بالاستماع إلى إحدى الأغنيات التي كانت تصدح من آلة موسيقية، يكفي أن يُوضع فيها قطعة نقود من فئة الـ5 ليرات، ثم الضغط على واحدة من الدواسات العشرين التي تخبئ في قلبها أغنية بديعة، ونادرا ما حصل أن قام أحد ما بتغيير أغنية أختارها شخص آخر، يستمع الجميع للأغنية حتى آخر جملة موسيقية فيها، ثم يقوم أحدهم ويعيد الكرة، وهكذا كانت هذه الآلة الموسيقية تصدح طوال اليوم بأجمل 20 أغنية، تم اختيارها بعناية بالغة وبرقة حس، بحيث يحبها الجميع، وجل ما في تلك الآلة هو أغان للسيدة فيروز، وما من غناء يريح روح المسافر كما فيروز، إنها تحمله على الذكرى، فيبتعد وحش الإحساس بالوحدة الذي يرافق المسافرون عائدة.
المقهى تغير بعد أن توفي الأب، وكانت الآلة الموسيقية من أوائل الأغراض التي تم استبدالها في المقهى لتحديثه وجعله يواكب تطورات المزاج العام، ليفاجأ رواد ذاك المكان، بطاولة بلياردو باردة وحيادية بشكل مزعج، عوض الروح التي كانت تشيعها أغاني تلك الآلة في المكان، الذي كان الصمت فيه، هو الأكثر ضجيجا بين الحاضرين، وهي تنشر الغناء عطر صنوبر في المكان، ثم ليغلق المقهى بعدها بمدة من الإهمال، الذي راح ينال من روحه شيئا فشيئا، بعد أن تم نقل مكان السفر، ولا أحد يعلم ماذا حلّ بآلتنا الأليفة، ربما هي في مقهى الذكرى، تصدح في عالم منسي، وتبث اللوعات والحسرات والألفة، في زمن آخر وأُناس آخرين.
تمّام علي بركات