أمّـــــا الأحبّــــةُ
د. نضال الصالح
وليسَ الأحبّةُ بشراً فحسبُ.. ليسوا أمّاً وأباً طاعنيْن في الغياب.. شركاءَ الرحم النور قبل أن تصيرَ إلى كبَد.. ذوي قربى، وأصدقاء، وأنقياءَ، بل همُ، أيضاً، مدينةٌ، وقلعةٌ، وأحياء، وشوارعُ، وساحاتٌ، ومقاه، وجامعةٌ، وبيتٌ. وليستِ البيداء دونَهم طريقاً صارت ثلاثةَ أمثالها فحسبُ، بل هي، أيضاً، أفاعٍ، وعقاربُ، وضباعٌ، وذئابٌ، تدفّقتْ من ظلمات الأرض عماءً على عماءٍ، فكانَ خرابٌ، وكانَ دمارٌ، وكانَ دمٌ.
الأحبّة.. البيدُ.. العيدُ، والروحُ طاعنةٌ في الاشتياق إلى باب المقام حيثُ الطفولة البكرُ، إلى أسواق المدينة التي لم تكن تنام قبل أيام من صباح العيد. الأسواقُ الصاخبةُ بالأضواء من كلّ لون، والمزدحمةُ بالرجال والنساء والأطفال المترفين بالحياة، والصادحةُ بالأغنيات: “الليلة عيد، عالدنيا سعيد”، و”يا ليلة العيد أنستينا، وجددتِ الأمل فينا”، و”أنهارك هلّتْ، عالدنيا وطلّتْ.. أهلاً بالعيد”. الأحبّةُ الذين تفرّقوا في البلاد، وخارجَ البلاد، شتّى، بعد أن عركتهم رحى الظلام بين حجريها الخشنين، أو بين أنياب العماء، فكانَ الخرابُ، وكانَ الدمار، وكانَ الدمّ… الأحبّةُ الأحياءُ قيدَ موتٍ، أو الموتى قيدَ حياةٍ. البيدُ التي لم تكن بيداً، بل عامرة بالحياة، ثمّ صيّرتها الغيلانُ بيداً دونَها بيد.. الأشجارُ التي كانت يانعةً بالخضرة، ثمّ كانت الغيلانُ، الجذامُ، ثمّ كانَ اليبابُ.. المحطّاتُ التي كانت تصخبُ بالغادين والرائحين، ثمّ كانت الغيلانُ، الطاعونُ، ثمّ كانَ الخواء، وكانتِ البيدُ.
العيدُ.. “تجهّمَ العيدُ وانهلّتْ مدامعُهُ، وكنتُ أعهدُ منهُ البِشْرَ والضحكا. كأنّما جاءَ يطوي الأرضَ مِن بُعُدٍ، شوقاً إليها فلمّا لم يجدْها بكى”.. العيدُ الذي كانَ.. المدينة التي كانت تساهرُ الليلَ حتى فجره، والأسواقَ حتى هدأتها، والشوارع حتى نومها.. التكبيراتُ الصدقُ، الحقّ، الإيقاعُ الخالبُ.. المقابرُ الحشْرُ الحياةُ.. الزياراتُ الصفاءُ التسامحُ.. الأراجيحُ الطهْرُ الأهازيجُ.. الحبُّ، الحبُّ، الحبُّ.
الأحبّةُ.. البيدُ.. العيدُ، والروحُ توْقٌ، وشوْقٌ، وخفْق. توْقٌ للعيد الذي كانَ، وللعيد الذي سيكونُ، وشوْقٌ للأحبّة: البشر، المدينة، القلعة، الأحياء، الشوارع، الساحات، المقاهي.. وخفْقٌ بالحياة التي كانت، بالحياة التي ستكونُ، لا بدّ ستكون. الأحبّةُ الذين سيعودون من شتاتهم، من هجراتهم القريبة والبعيدة، ومن شتات أرواحهم، فيعود للعيد عيده. الذين سيبدعون الأعيادَ وقد مضتِ الأفاعي إلى جحورها، والعقاربُ إلى صحرائها، والضباعُ والذئاب إلى غاباتها، والغيلانُ إلى كتب الخرافات، وهذا “الربيعُ” الخنّاسُ إلى ناره. البيدُ التي ستنهضُ من رمادها، فتكحّلَ ضفّتي الطريق من دمشق إلى حلب بالخُضرة والحياة. البيدُ التي ستزهو بالمحطّات الحياة. البيدُ التي ستلفظُ الغيلانَ، الجذامَ، اليبابَ، الطاعونَ، الخواءَ، فتورقُ الحياة.
الأحبّةُ.. البيدُ.. العيدُ، والروحُ وسْعَ سموات سماؤها، أعيادُها المشتهاةُ، أعيادُها الأعيادُ.. سماءٌ لا غربانَ فيها ولا جراد.. أعيادُها الربيعُ الربيعُ.. أحبّتها البشَرُ الباسقةُ أرواحُهم أشجاراً طيّبةً أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، أحبّتها الكلمةُ العهدُ، الكلمةُ الزرعُ، الثمرُ، القلبُ، التي تكونُ.. أحبّتها المدنُ، القرى، الضاحكةُ للحياة.. القلعةُ، القلاعُ، الراقصةُ على إيقاع الباهر بنجمتيه في الأعالي.. الأحياءُ، الشوارعُ، الساحاتُ، الشغوفُ بالحجارة العطر، الشجر الباذخ، الماء الراقص.
الأحبّةُ.. البيدُ.. العيدُ، والروح وسْعَ وطنٍ نداؤها: يا حلبُ، يا دمشقُ، يا حمصُ، يا.. يا بحرُ، يا برّ، يا سماءُ، كلّ عام وسوريةُ بخير.