إدلب.. لا تراجع عن القرار
عملياً، الحرب السورية انتهت قبل أسابيع في درعا، وأقفل الستار على جرح بقي فاغراً ومفتوحاً لأكثر من سبعة أعوام في الوجدان الوطني والذاكرة الجمعية السورية، فمع تحرير الجنوب تبدّدت وتلاشت الأبعاد الداخلية للأزمة، بكل صورها الواقعية أو المتخيّلة، وبكل مجازاتها الحقيقية أو الموهومة، وبكل ثقلها المعنوي والرمزي والروحي والأخلاقي، للانطلاق في عملية تحرير جديدة شمالاً، في إدلب، وبالتحديد على امتداد الحدود الشمالية الغربية مع تركيا الأردوغانية، ليس من أجل إنجاز إطار عام من المصالحة وحسب – كما حدث في مناطق أخرى – بل ومن أجل معالجة حالة شاذة، حين تجد دولة ما، أو سلطة مركزية ما، نفسها، أمام استحقاق مواجهة تضخم وَرَميٍّ إرهابي هو، حقيقة، خلاصة تجارب الدعم الدولي للإرهاب فوق أراضيها الوطنية، وهو العصارة التي تفتقت عنها، وقبل أي شيء آخر، العقلية الشيطانية السعودية والقطرية والتركية في أبشع تجلياتها الإجرامية، والتي تمكّنت مع مرور الوقت من تحويله إلى ما يجسّد عملياً أكبر وأضخم وأخطر مكب للنفايات الإرهابية في العالم.
فهنا في هذه الدائرة الجغرافية المفتوحة مباشرة على قوافل الدعم والإمداد، المالية والتسليحية والبشرية، التركية والقطرية خاصة، تجسّدت أبشع وأوقح أشكال التحالف والتنسيق بين التنظيم الإخواني العالمي وبين خلايا وكتائب الإرهاب القاعدي العابر للحدود وبين المعسكر الغربي الأطلسي والنزعة الاستعمارية المتجدّدة بأحط صورها وأشدها بؤساً وانحطاطاً وتوحّشاً وإجراماً، على امتداد سنوات الحرب؛ وهو تحالف يجد نفسه اليوم في موقع إحصاء الخسائر وإعادة تجميع القدرات بحيث وصل به البؤس حدود استقدام البوارج الحربية وحاملات الطائرات إلى البحر المتوسط والخليج العربي في استعراض نهائي للقوة الغرض منه التلويح باحتمالات استخدام أحدث الآرمادا العسكرية، وارتكاب عدوان سافر في مهمة إنقاذية أسطورية للوحش الوهابي، وعلى أمل الإبقاء عليه حيّاً، واختطاف إدلب – مرة واحدة وإلى الأبد – لتدشينها حاضرة للتكفير العالمي، يتعيّن عليها أن تقوم بمهام قندهار جديدة، ولربما تنعم بوراثتها إلى الأبد، وأن تستكمل بالتالي مسيرة “الجهاد” الوهابي الأطلسي، الذي كان انطلق في أفغانستان، ليحط في البوسنة والهرسك، ومن ثم في عراق بريمر والبغداديين، ليختبر اليوم إمكانيات القضاء عليه نهائياً فوق الأراضي السورية.
دون خجل ودون مواربة، يهرع الغرب للإبقاء على الإرهاب حيّاً وماثلاً في سورية؛ يكشف عن كم هائل وغير مسبوق من النفاق الفظ والازدواجية السافرة في التعاطي مع تهديد أمني يضع على حافة الخطر الحياة اليومية للشعب السوري، ويعلّق استحقاقاته الاقتصادية والتنموية وحقه في الحياة الكريمة إلى ما لانهاية، بل ويتكشّف عن تهديدات خطيرة، لا يمكن الاستمرار بقبولها، للوحدة السياسية والاجتماعية والقيمية للمنطقة وللمجتمعات العربية والإسلامية برمتها.
يرفض الغرب، ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا خاصة، أن يدع السوريين يرتاحون رغم تلك السنوات الطويلة من المعاناة والمحنة، وهو مازال يخفي مآربه وأطماعة القديمة والمستجدة تحت قناع من الدعاوى الإنسانية المزيّفة، ومازال يعتقد، للأسف، أن القوة العسكرية واستخداماتها محكومة بمعادلات سابقة. ولكن إدلب أكبر من مجرد محافظة في الوجدان الوطني السوري، وهي المرجل السوري الضخم الذي سيصوغ معاني ودلالات وخلاصات مرحلة ما بعد الخلاص من أشرس أشكال الإرهاب الإخواني الوهابي المحمول على أجنحة الفوائض الخرافية للبترودولار الخليجي والنزعة الإلحاقية العثمانية المتجدّدة – وكلاهما يرتدي برقعاً إسلامياً – ضد إسلام بلاد الشام بتعدديته وتسامحه واعتداله، وبعروبيته أيضاً؛ وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن سورية التي تكبّدت الكثير من الخسائر على صعيد بناها التحتية، ودفعت الغالي والثمين من قدراتها، لاتزال في قمة التعافي على مستوى هويتها الوطنية الأصيلة والمركبة، وهي ماضية في شحذ هذه الهوية بكل عناصر ومتطلبات الإصلاح.
لا يمكن أن يستقر الوضع في عموم الوطن السوري دون إنهاء الوضع الشاذ في إدلب الجريحة، ولا يمكن لأي سوري القبول بأن يكون هذا الوضع مقدّمة للسلخ والسلب، كما حصل في لواء الاسكندرون في ثلاثينيات القرن الماضي. وكل محاولات ثني القيادة السورية عن قرارها في متابعة استئصال الإرهاب من جذوره دفاعاً عن شعبها، سواء من خلال إطلاق التصريحات العنترية أو عبر استقدام الأساطيل وفبركة حوادث كيماوية مزعومة، لن تفيد شيئاً، ولن تشكّل عائقاً أمام المضي في إنهاء وجود كل المظاهر المسلحة غير الشرعية، بما يكفل عودة الأمن والاستقرار إلى كل الأراضي السورية، في إطار الحفاظ على المصالح الوطنية العليا للدولة السورية، ووحدة وسلامة الأراضي السورية، كمهمة أولى وقضية مقدّسة لا تقبل المساومة أو التردد أو الانكفاء.
بسام هاشم