الوضع العالمي بين مرحلتين
منير شفيق
كاتب وباحث من فلسطين
انهار مشروع جورج دبليو بوش في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، وقد استهدف عسكرة الوضع العالمي، لإعادة تكريس أمريكا زعيمة لعالم برأس واحد، وكان جورج بوش الأب قبله بعشر سنوات قد سعى لتحقيق ذلك عند انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
فشلت إدارة جورج دبليو بوش بحربيْها اللتين شُنّتا لاحتلال كل من أفغانستان والعراق لتحقيق السيطرة عليهما، كما فشل الكيان الصهيوني في حربَيْه “2006 ضد المقاومة في لبنان و2008/2009 ضد المقاومة في قطاع غزة”، الأمر الذي أفشل المشروع الذي هدف إلى إعادة بناء شرق أوسط جديد- كبير. وجاءت الأزمة المالية العالمية في 2008 لتطيح بأحلام العولمة ودخول النظام الرأسمالي العالمي في أزمة من أشد أزماتها، ولم ينقذها من السقوط أرضاً، سقوطاً طويل الأمد، غير تدخل الدولة التي أوقفتها على قدميها مرة أخرى. وللمهزلة، كانت العولمة تريد تجاوز الدولة.
أدّت محصلة هذا الفشل على مستوى المنطقة إلى أزمة اختناقية لمحور الاعتدال العربي الذي راهن على مشروع “المحافظين الجدد”، الأمر الذي أدى، بدوره، إلى انتصار ثورتي تونس ومصر وما لحقهما من صراعات متعددة الأوجه والأبعاد والدخول في مرحلة من الفوضى العامة، ليس هنا الآن الدخول في تفاصيلها، واتجاهات نهاياتها.
على أن المحصلة، موضوع هذه المقالة، أدّت على المستوى العالمي، مع مطلع العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، إلى تشكّل عالم متعدّد الأقطاب الدولية والأقطاب الإقليمية، ولكن من غير إقامة نظام لعالم متعدّد القطبية، أي حالة بلا نظام عالمي محدّد المعالم، وبلا نظام إقليمي جديد، مما أدى إلى نشوء وضع يتّسم بالفوضى والارتباك الاستراتيجي والسياسي، بصورة عامة، بالنسبة إلى أغلب الدول، ولاسيما أمريكا وأوروبا. وقد أخذتا بالتراجع وفقدان السيطرة على الوضع العالمي، وإن حافظت أمريكا على قوة نووية وصاروخية على مستوى متفوق. ولكن من دون الإفادة منها، أو استحضارها، في حروبها العسكرية التقليدية الفاشلة، وهو ما حدث مع الكيان الصهيوني كذلك.
على أن مرحلة عالم متعدّد القطبية، بلا نظام قطبي، وقد غلبت عليه حالة الفوضى والارتباكات في بلورة استراتيجيات وسياسات متماسكة عموماً، أخذت تخلي مكانها لمرحلة جديدة في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ وذلك من جهة، بسبب تعاظم مكانة كل من روسيا والصين كأقطاب دولية لها أوزان ثقيلة، كما بسبب تعزيز مكانة تركيا وإيران، كأقطاب إقليمية لها أوزان مميزة عن كل ما عرفناه منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، ثم من جهة أخرى بسبب سياسات ترامب نفسه.
وبهذا تفاقمت التناقضات الأمريكية- الروسية، والأمريكية- الصينية، واشتد التناقض الأمريكي- الإيراني، والإيراني- الصهيوني “الكيان الصهيوني”، وتعثرت وارتبكت العلاقات التحالفية الأمريكية- التركية، والعلاقات التركية- الصهيونية. والأهم، ما أخذ يسود من حرب تجارية وخلافات متعددة أمريكية- أوروبية، وأمريكية- كندية.
هذا كله يعني أن العالم منذ عام أخذ يدخل مرحلة جديدة غير تلك التي سادت بين 2010- 2017، فنحن نواجه عالماً متنازع الأقطاب المتعددة، تنازعاً لم يُشهَد مستواه وشدته، منذ الحرب الباردة. فقد دخل كل من روسيا وأمريكا في سباق تسلح يضاهي سباق التسلح في الحرب الباردة، كما في مواجهة حادة في أوكرانيا. أما في سورية، فالمواجهة ما زالت أبعد ما تكون عن التوصل إلى تفاهم لحلّ يشمل الوضع السوري كله.
وباختصار، روسيا تريد من أمريكا أن تعترف بها كدولة كبرى نِداً لها، يتوجب التفاهم معها على إقامة نظام عالمي جديد بقيادة مشتركة بينهما. أما أمريكا فلم تصل بعد إلى الاقتناع بإقامة نظام عالمي متعدّد القطبية يعترف بأدوار لروسيا والصين وأوروبا غير الأدوار التي تقرّرها الهيمنة الأمريكية المنفردة. وهذا ما يشكل الخلفية غير المنظورة وراء تدهور علاقات دونالد ترامب “أمريكا” بروسيا والصين وأوروبا وكندا واليابان، ناهيك عن احتدام الصراع الأمريكي ضد إيران وعن ارتباك في العلاقات الأمريكية- التركية، بل وحتى العلاقات مع عدد من الدول العربية.
إن وصول التنازعات الحادة بين أمريكا وكل من روسيا والصين، وإيران، إلى هذا المستوى الذي هو عليه الآن، ووصول الاشتباك بين أمريكا ترامب وكل من أوروبا وكندا واليابان في قضايا المناخ والتجارة الدولية، وعدد من القضايا السياسية إلى المستوى الحالي، سوف يؤدي إلى نتيجة واحدة رئيسية تتمثّل في إضعاف أمريكا، وتعريض سياساتها المختلفة إلى الفشل.
ثم هنالك نتائج أخرى لهذه السياسة، تؤدي إلى المزيد من تقوية منافسيها الدوليين الكبار وفي مقدمهم الصين وروسيا، كما إلى إفلات الدول المحاصَرة من الحصار والمقاطعة مالياً واقتصادياً.
وخلاصة، إن هذه المعادلة الجديدة انتقلت بالوضع الدولي من عالم متعدّد القطبية تسوده الفوضى وارتباك السياسات عموماً، ولاسيما على مستوى أمريكا وأوروبا، إلى عالم متعدّد القطبية تسوده صراعات شديدة الحدة بين أمريكا من جهة، وكل من روسيا والصين وإيران وأوروبا وتركيا وكندا والمكسيك من جهة أخرى، الأمر الذي يسمح بالتفريق أو التمييز بين مرحلتين في عالم متعدّد الأقطاب الدولية والإقليمية ما بعد عالم انتهاء الحرب الباردة، وفشل قيام نظام دولي برأس واحد تقوده أمريكا. وهذا على الضد مما توقعه كثيرون بعد انتهاء الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وما حدث من متغيرات في الدول الاشتراكية.
كان يفترض، كما قضى التقليد التاريخي، أن تأخذ أمريكا بتشكيل تحالفات جديدة، ابتداءً من القديمة، أو الراهنة “الناتو”، لخوض الصراع في المرحلة الجديدة ضد الدول التي تصنّف بالأقوى والأخطر على نفوذها العالمي. ولكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أخذ يشق طريقاً آخر، يخالف بدهيات بناء الإستراتيجية وخوض الصراع.
فقد صعّد نزاعه مع روسيا إلى مستوى سباق تسلح جديد لا يختلف عن سباق التسلح في مرحلة الحرب الباردة، ثم أخذ يفرض على روسيا عقوبات اقتصادية تزيد من عمق التناقض والتنازع بينهما، وفعل الأمر نفسه في علاقته بالصين. وكان هذا وذاك مفهومين لو اقتصر الأمر على الدولتين وزاد إيران والمقاومات، ولكنه فتح، في الوقت نفسه، حروباً تجارية مع كل من يُفترض التحالف معهم، لتشكيل أوسع جبهة لخوض الصراع ضد الدولة أو الدول الأكثر قوة وخطراً على النفوذ الأمريكي العالمي، راهناً أو في مستقبل قريب. فعلاقاته السياسية والاقتصادية والدبلوماسية في أسوأ حالاتها مع ألمانيا وكندا وبريطانيا ومع كتلة الدول السبع الكبار والمكسيك وتركيا، بل وليست على ما يرام حتى مع فرنسا الحريصة على إنقاذ العلاقة الأمريكية- الأوروبية من التدهور.
وقد تخبّط حتى في علاقاته مع الدول العربية التي يريدها أن تشكل حلفاً مع الكيان الصهيوني ضد إيران، وذلك حين فتح موضوع القدس ونقل السفارة الأمريكية، مما أجبرها على التصويت ضده في كل القرارات الرسمية العربية والإسلامية والدولية. والأنكى، ما راح يوجه لها من إهانات حين راح يشير إليها بـ”الدول التي تحت حمايتنا”، أو “الدول التي نحميها”، فكيف تقبل أن تُسمّى “المحميات”؟.
باختصار، هذه سياسات فاشلة، ولا يمكن لها أن تنجح حتى في ما يمكنها أن تنجح فيه. فكيف يمكن لدولة كبرى، مهما بلغت قوتها، أن تعادي كلّ الدول دفعة واحدة وتقاتل منفردة، أو شبه منفردة، قوى دولية وإقليمية ذات بأس وعلى درجة عالية من الذكاء السياسي والقدرة على إدارة الصراع وخوضه؟.