مستقبل الأمة العربية رهن الإحاطة بواقعها
د. سليم بركات
البحث في حال الأمة العربية اليوم يعدّ من البحوث الملحة والضرورية، ولاسيما في ظل ما يتعرض له الوطن العربي من حروب، واحتلال، ونكبات، وشلل، وانتقام، وإرهاب، وتخلف، وفقر، ومرض، وأمية، وركود، وتفرقة.. وكلها تشكل واقعاً عربياً مشلولاً في مواجهة القوى المعادية والمنافسة للأمة العربية في شتى الميادين. وكيف لا يكون الإنسان العربي يعيش حالة من التشتت، وهو الذي لا يمتلك إرادة التغيير التي تخرجه من حالة الانكسار، نحو امتلاك رؤية وحدوية تقتضيها الحالة العربية والدولية الراهنة.
التحدي الأهم الذي يواجهه العالم ومنه الوطن العربي، هو سياسة القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي سياسة تعطي لنفسها الحق في توجيه الضربات الاستباقية لإجهاض قدرة مناهضيها على سطح المعمورة. كما تعطي لنفسها الحقّ في صياغة العالم على صورة أمريكا وشاكلتها، ومن منطلق أنها القدوة الوحيدة التي لا تضاهيها قدوة. زد على ذلك أنها أجازت لواشنطن امتلاك أسلحة التدمير الشامل التي تضمن تفوقها العسكري بغاية السيطرة على مصادر الطاقة والثروات المالية والاقتصادية للتحكم بمقدرات المعمورة كما يحلو لها.
مشروع أمريكي إسرائيلي، في ظل هيمنة القطب الواحد يحاول التحكم في منطقة الشرق الأوسط لامتلاك مقدراتها، والتنعم بخيراتها، وهو في الإطار التنفيذي يحاول إعادة تشكيل الوطن العربي سياسياً واقتصادياً، وفق ما تقتضيه مصالحه الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وفق الرغبات والشروط الإسرائيلية، وهل من الصواب أن نتجاهل نبوءة برنارد لويس صاحب مشروع تقسيم العالم الإسلامي، ومنه الوطن العربي، الذي يتضمن أن الحروب القادمة في منطقة الشرق الأوسط ستكون في دول المنطقة لا بينها. وهل من الصواب أيضاً أن نتجاهل ما يرمي إليه برنارد هنري ليفي أحد منظري ما يسمى بالربيع العربي، والذي يعدّ امتداداً لسايكس بيكو، وتلبية للرغبات الأمريكية في الفدرلة الطائفية والاثنية داخل الدول العربية، كي يفسح المجال للقوى التابعة والمرتبطة للتحكم بمقدرات وموارد الوطن العربي وفق المصالح الأمريكية الإسرائيلية. زد على ذلك المحاولات الأمريكية الإسرائيلية لإخراج الثروات العربية وعلى رأسها النفط والغاز من أيدي منتجيها العرب ووضعها في قبضة الشركات الدولية متعددة الجنسيات من خلال عملية الخصخصة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى العالم.
إن نظرة متأنية لممارسات التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي الإرهابي وحلفائه في تعقيد الأزمة السورية، والتصعيد في مواجهة إيران، ودعم الإرهاب وإدارته، ومن ثم العمل على ترسيخ معاناة المنطقة من خلال تسعير الحروب الداخلية متفاوتة الاتساع والشمولية، إضاقة إلى ترويج صفقة القرن، توضح أساليب هذا التحالف في تحطيم هويات شعوب المنطقة، وعلى رأسها الهوية القومية للوجود العربي بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
إن الهيمنة على دول المنطقة هي الغاية القصوى للإدارة الأمريكية اليوم.. هيمنة بدأت منذ عهد الرئيس بوش الإبن، وبلغت ذروتها في عهد الرئيس ترامب، بعد أن مهد لها وتم تأجيجها على أسس عصبية، واثنية، ودينية، ومذهبية، أدت فيما بعد إلى إشعال الحروب التي انخرطت فيها الإدارات الأمريكية من خلال تبنيها للإرهاب الإسلاموي التخريبي على مستوى المنطقة تلبية للرغبات الإسرائيلية. وهل نبالغ إذا قلنا أن ما وصلت إليه الأمة العربية من خلال الأحداث الكارثية الإرهابية التي ألمت بها كان قد أشار إليها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في حرب تموز على لبنان عام 2006، عندما كشف عن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنته كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، وعندما أمر باستخدام القوة ضد الإيرانيين بعد أن وجه تهمة الإرهاب إلى إيران. والحقيقة، لم يكن جورج بوش الإبن سوى الممهد لترامب فيما يقوم به اليوم من تصعيد في مواجهة سورية وإيران.. إنها البلطجية الأمريكية على مستوى المنطقة والعالم.
السيطرة على المنطقة هي الغاية القصوى لإدارة ترامب، ولكن حيث تخفق هذه السيطرة تلجأ أمريكا إلى اعتماد البديل: الإرهاب والفوضى ومستثيرة الحساسيات، والعصبيات الاثنية، والدينية، والمذهبية، لإشعال الحروب الأهلية المؤدية إلى نهايات كارثية تهدد المنطقة بكاملها. ومن يرصد خطابات الرئيس ترامب يجد التصعيد في مواجهة إيران، وسورية، وباقي محور المقاومة، كما يجد التصعيد في مواجهة روسيا، والصين، وباقي أنصار محور المقاومة، لفرض استراتيجية أمريكية طويلة الأمد على المنطقة، الأمر الذي يطرح السؤال التالي: ماذا يستطيع العرب أن يفعلوا، أكانوا نظماً حاكمة أم قوى جماهيرية، لتحجيم طموحات وأطماع ترامب الامبريالية الصهيونية؟ وبالتالي هل يبقون في حالة اللاتكافؤ بدلاً من حالة إثبات الذات في مواجهة هذه الطموحات والأطماع؟
للإجابة عن هذا السؤال، لابد من تشخيص الحالة العربية الحديثة والمعاصرة، والتي تشير إلى إصابة النظام العربي بجراح بالغة من خلال نكسة عام 1948، وهزيمة عام 1967، كما تشير إلى النكبات المتتالية بعد هذه الهزيمة التي هزت الوطن العربي وبلغت الذروة في هذه الحرب الكونية الإرهابية المعلنة على الوطن العربي وفي الطليعة سورية.. حرب اتسم فيها الكثير من الأنظمة العربية بعدم الفاعلية والفشل، من حيث القصور في الوعي، وغياب الإرادة السياسية على صعيد اتخاذ القرار، ومن حيث الفشل في معالجة واقع التجزئة، وكبح جماح التبعية لأعداء الأمة العربية، ومن حيث الفشل في تحديد دور الغرب الأمبريالي الداعم للعدوان الإسرائيلي المستمر على الأمة العربية، والأهم من كل هذا فشل النظام العربي الرسمي وغير الرسمي في تحريك الشارع العربي في مواجهة من يتربص بالأمة العربية شراً.
في ضوء هذا الواقع المرير والمخزي، كيف يمكن تفعيل ردة الفعل العربية مسؤولين ومواطنين؟ هل ستكون باتجاه الإحاطة بالواقع كي يكون الإصلاح، أم أن ذلك أصبح متعذراً، وبالتالي هل يترك الواقع العربي للموت ببطيء دون معالجة لإحيائه وتطويره، ومن ثم كيف يمكن ممارسة أقصى درجات التأثير على النظم الحاكمة لمواجهة الضغوط الإمبريالية الصهيونية الرجعية الإرهابية من جهة، ولرفع مستوى أداء وفاعلية هذه النظم محلياً وقومياً من جهة أخرى؟ وبالتالي كيف يمكن تفعيل الجماهير العربية ديمقراطياً لتفعيل النظام العربي الرسمي وغير الرسمي، أكان ذلك على مستوى الجامعة العربية أم كان بدونها، لإنجاز أرضيات مشتركة للتضامن العربي في مواجهة هذه التحديات الإمبريالية الصهيونية الرجعية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية؟
المنطقة العربية مكشوفة اليوم أمام المشروع الأمريكي من خلال معطيات العولمة، والحاجة ملحة لتبني مشروع عربي نهضوي قومي يواجه المشروع الأمريكي المتصهين المعولم، مشروع يردم الفجوة بين البلدان العربية وبين الدول الصناعية الكبرى المتزايدة في الاتساع، والمترافقة مع تراجع الأمم المتحدة ومكانتها لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، تراجع وسّع الفجوة بين الأغنياء والفقراء ليس على مستوى الوطن العربي فقط، وإنما على مستوى العالم. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو: كيف السبيل إلى إقامة تفاهم عربي قومي، سياسي، اقتصادي، أعلى من الدولة القطرية؟ وبالتالي كيف السبيل إلى توسيع وتعزيز عمل عربي مشترك بعد كل ما جرى ويجري؟ والأهم من كل هذا كيف يمكن رصد الظاهرة المؤذية المقلقة التي شكلت معاناة العرب اليوم، والمتمثلة بتآكلهم مادياً ومعنوياً، أكان ذلك على مستوى الحقوق والقدرات، والفرص، أم كان ذلك على مستوى العمل والتشغيل والتثمير، والإنتاج، والإبداع الثقافي والحضاري؟ وهل نبالغ إذا قلنا أن عرب اليوم في ذروة التخلف، وهم في حيرة من أين يؤرخون لهذا التخلف، من المراحل الماضية، أم من مرحلة الاستعمار العثماني، أم من مرحلة الاستعمار الأوروبي، أم مما هم عليه اليوم! وبالتالي كيف السبيل لتحديد منابع هذا التخلف حتى تكون معالجته، هل هي من خارج الأمة العربية؟ أم هي من داخلها؟ ومن ثم كيف السبيل إلى اقتلاعه من جذوره وهو ضارب في أعماق الشعب العربي؟ ولاسيما إذا ما اكتشف العرب أن ما من أحد قد أساء إلى العرب أكثر مما أساؤوا لأنفسهم، وإن مرد هذا يعود إلى فهمهم القاصر للسلطة وطريقة ممارستها، وإلى فهمهم القاصر أيضاً عن استيعاب مفهوم التغيّر وليس التغيير، لأن للتغير وظيفة ثقافية هي النقد، وبالتالي أليس النقد هو طريق التصحيح والتصويب والارتقاء؟ ومن ثم هل يتحضر مجتمع إلا إذا كان نقدياً ويقاد بالأفكار؟ وبالتالي هل تكتفي المجتمعات بالنقد من أجل النقد فقط، أم أنها تتطلب نقد المضمون الذي يتناول جوهر الأشياء وقانون حركتها وتجلياتها في إطار من الحرية، هي المبتدأ وهي الخبر، وهي القيمة، وهي الوسيلة، وهي الحاجة والغاية؟
بقي أن نقول: إن أحوج ما يحتاج إليه العرب اليوم هو امتلاك مشروع النهوض، والذي لا يكون إلا من خلال تحديد المفاهيم، والآليات، والوسائل، وليس من خلال تحديد المثل العليا، والقيم الحضارية، والمبادئ السياسية فقط. ما يحتاجه العرب اليوم هو الوعي الجماهيري، المعبأ سياسياً داخل الجسم الواحد. ما يحتاجونه استراتيجية الممانعة، والمقاومة، المعطلة لقوى الجبروت المادي والمعنوي المعادي للأمة العربية؛ إنها الاستراتيجة الوحيدة التي تردم الفجوة بين التحدي والرد على التحدي، الأمر الذي يستدعي المراجعة النقدية المعمقة للحالة العربية الراهنة، للإحاطة بها كي يكون المستقبل واضحاً، وهذا لا يكون إلا بتفعيل الفكر القومي العربي المقاوم، كونه الضمانة الحقيقية التي تحصن العرب من أنفسهم أولاً، ومن أعدائهم ثانياً، وبدون ذلك ستضيع ثبوتيات وجودهم.