بعد وفرة العرض في طرطوس الطلب على شراء المسكن في حدوده الدنيا.. والأسعار تمتحن إمكانيات المواطن
فرضت الأزمة الحالية التي تعرّضت لها سورية منذ أكثر من ثماني سنوات واقعاً جديداً وقاسياً لمجمل القطاعات، ولعل قطاع الإسكان والسكن في محافظة طرطوس كان في مقدمة هذه القطاعات، سواء لجهة العرض، أو الطلب على المساكن، رغم الحالة المعيشية الصعبة للسواد الأعظم، ومع ذلك فقد ازدهرت الحركة خلال السنوات الأربع الماضية، حيث ينشط السوق بنحو لافت، ما ساهم في زيادة الطلب من جهة، ومن جهة أخرى شجع الكثيرين من المتعهدين وأصحاب العقارات للاستثمار في هذا القطاع، حيث اعتبره البعض شكلاً من أشكال “تبييض الأموال”، ولاسيما بالنسبة لبعض الوافدين من أبناء المحافظة، أو بالنسبة لغيرهم ممن كانوا يقيمون في محافظات أخرى كدمشق، أو حلب، وغيرهما، وأجبرتهم الظروف لبيع منازلهم في هذه المحافظات، وتجميع ما بحوزتهم من أموال، وشراء عقارات وأراض للبناء في المدينة أو ضواحيها تحت ضغط الحاجة للسكن أو الاستثمار به، إلا أن استمرار الحال على ما هو عليه من المحال كما يقال، فحسب بعض المتعهدين فإن الصورة الحالية، ومنذ أكثر من عامين في حال ترقب وتراجع كبير لحركة البيع والشراء، وبلغة أهل “الكار” فإن السوق “داقر” لأسباب كثيرة.
“البعث” تفتح ملف واقع السكن وحركة العقارات في محافظة طرطوس، وذلك بهدف الاطلاع على مشاكله، وهموم المواطن الفقير، وحلمه المشروع بالحصول على شقة سكنية تناسب دخله وسط هذا الارتفاع الجنوني لأسعار الشقق، سواء للإيجار، أو للتملك!.
الباحث عن شقة
يقول الشاب المهندس محمد علي، وهو الذي أنهى خدمته العسكرية والتحق بوظيفته حديثاً، بأن حلمه بالحصول على شقة سكنية وسط المدينة بات مستحيلاً، وذلك بسبب الارتفاع غير المنطقي لأسعار الشقق على الهيكل وسط المدينة، وحتى في الأحياء الشعبية، حيث يصل سعر المتر الواحد إلى أكثر من 150 ألف ليرة، وهذا يفوق إمكانيات أي موظف، ولاسيما في ظل تعثر عملية الإقراض من المصارف، ولو قامت بمنحها بسقوف متدنية وفترات قصيرة لا تتجاوز 15 سنة، وهي تغطي أقل من 25% من قيمة العقار على الهيكل!. بدوره تحدث الموظف محمود إبراهيم فأشار إلى جملة من مشاكله التي تبدأ بمعاناته من كونه يعيش بالإيجار منذ أكثر من عقد من الزمن، ولديه شباب بعضهم في الخدمة العسكرية، والبعض الآخر في الجامعات، ورحلة التنقل من حي لآخر، ومن الريف إلى المدينة، ومازال حلمه بحصوله على شقة سكنية بمشروع السكن الشبابي مؤجلاً لإشعار آخر، ربما يكون من نصيب أحد أولاده وهو الذي سجل عليه يوماً كان فيه للشباب عمره وزمانه، أما اليوم فلم يعد الحديث برأيه عن هذا المشروع الحلم وخاصيته بالمصطلح الشبابي لكونه في مرحلة أبواب التقاعد، ولا ينتهي عند بحثه مع أولاده الأربعة عن إمكانية تحقيق حلمهم بالحصول على شقق لهم تؤمن لهم استقرارية الحياة الزوجية بدلاً من حالة التشرد التي رافقتهم وهم صغار من منزل لآخر!.
المكاتب العقارية
العديد من أصحاب المكاتب العقارية في المحافظة رأوا أن السوق العقاري يعاني من الجمود الكلي لحركة البيع والشراء، فيما اعتبر البعض منهم أنه كان ميداناً للذين قاموا بعملية “تبييض” الأموال واستثمارها بشراء العقارات، وبأسعار مرتفعة جداً تفوق إمكانية أبناء المحافظة الذين يعتبرون وسطياً من أصحاب الدخل المحدود، واليوم تعود الحالة لما كانت عليه قبل سنوات من الجمود والحذر بشراء العقار إلا تحت ظرف ضغط الحاجة الملحة وبحدود معينة، ولذلك من الطبيعي أن نشاهد هذه الحالة اليوم، لاسيما أن الأسعار مرتفعة، وكذلك أسعار المواد الأولية الباهظة!.
للمتعهدين رأيهم
وبحسب المتعهد سنان درغام فإن رأيه بواقع أزمة السكن وقلة الطلب، رغم كثرة العرض، فيه مقاربة منطقية لما نطرحه حيث قال: السوق العقاري يوجد فيه جمود كبير لعدة أسباب أولها سعر صرف الدولار الذي لا يتناسب مع السعر الحقيقي للعقار، بمعنى زيادة سعر الدولار لا تتناسب مع سعر العقار، ولكن ثبات سعر الصرف لمدة طويلة حقق توازناً في سعر العقارات، وتوجد الكثير من العقارات المعروضة للبيع وقلة الطلب بسبب البناء الكثير، لأن المواطن بالأصل كان يعتبر ادخاره المضمون هو العقار، واستقرار الأوضاع في المناطق التي كانت ساخنة، وعودة الأهالي إليها، ما قلل من تجارة العقار.
التعاون السكني
من جانبه أشار عبد الكريم أسعد رئيس المكتب التنفيذي للتعاون السكني في طرطوس إلى جملة من الصعوبات التي تواجه القطاع السكني، ومنها عدم تأمين الأراضي اللازمة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتوزيعها للجمعيات السكنية بالرغم من أن تأمين الأراضي اللازمة من خلال بيع الجمعيات العقارات العائدة ملكيتها للجهات هو المقدمة الأولى لإشادة المساكن بحسب النصوص القانونية التي تسهل عملية تأمين الأراضي لهذا القطاع، وتخصيصها من قبل الوحدات الإدارية ضمن المخططات التنظيمية، كما أن عدم تسهيل إقامة الضواحي السكنية من قبل الجمعيات خارج المخططات التنظيمية مازال يشكّل عقبة من عقبات العمل في قطاع التعاون السكني، وعدم توفر الأراضي ألزم بعض الجمعيات بالشراء من قبل القطاع الخاص، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار الأراضي، والذي انعكس بدوره على زيادة كلفة المسكن التعاوني، خاصة إذا ما علمنا وبحساب بسيط أن كلفة المسكن أول ما تتعلق بثمن الأرض، إضافة لعدم منح قروض للجمعيات بحسب القانون الذي أجاز منح الجمعيات قروضاً لاشادة المساكن بفائدة قليلة تساوي فائدة القروض الزراعية تسدد بمدة زمنية مقدارها 25، إلا أن هذا مازال حبراً على ورق، مع الإشارة إلى أن الجمعيات السكنية ملزمة قانوناً بفتح حساباتها لدى المصرف العقاري، وهذا يدفعنا لإمكانية دراسة قروض من المصارف الخاصة من أجل إشادة المساكن للأعضاء، ومن الصعوبات المهمة التي تواجه التعاون السكني امتناع الجهات العامة، والمؤسسات العامة عن تطبيق المادة /67/ من المرسوم التشريعي لعام 2011، ما يعرقل عمل الجمعيات السكنية، ويرفع كلفة المسكن التعاوني، ويجب الدراسة لوضعه موضع التطبيق، وختم أسعد بالقول: في حال تم الأخذ بهذه الاعتبارات والصعوبات ومعالجتها فإنه يمكن القول بإمكانية تخفيض قيمة المسكن بنسبة لا تقل عن 30%، ونكون بذلك قد حققنا الهدف والغاية من وجود قطاع التعاون السكني، ولا يغفل أسعد القول بأن هذا القطاع على أهميته، وما حققه من إنجازات خلال مسيرته الطويلة، ساهم بتحقيق نهضة عمرانية وسكنية وفق الشروط الفنية الحديثة والتجميلية، إلا أنه يبدو الآن منكمشاً ومتراجعاً منذ تسعينيات القرن الماضي للأسباب المشار إليها، على أمل أن تتم معالجتها لكي يعود لهذا القطاع ألقه وحيويته.
المؤسسة العامة للإسكان
بدوره مدير فرع المؤسسة العامة للإسكان في طرطوس المهندس معمر أحمد قال رداً على دور المؤسسة في معالجة مشكلة السكن، ولاسيما الشبابي، بأن المؤسسة أنجزت المشروع الخاص بها، حيث قامت بتخصيص 429 مسكناً للمكتتبين، وحالياً يتم إبرام العقود بالأبراج /20-21-22-23-24/، وخلال الربع الرابع من العام الماضي تم تخصيص 129 مسكناً /فئة ب/، في حين سيتم تخصيص 517 مسكناً للمكتتبين /ب-ج/ من فئة خمس وسبع سنوات نهاية الربع الثالث من العام الحالي، كما يجري العمل على إنجاز دراسة المرحلة الثانية من مشروع الشيخ سعد لدى الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية، متوقعاً أن تتم المباشرة بالأعمال لحظة استلام المخططات والدراسات والإعلان عنها بشكل أصولي، والمؤسسة العامة للإسكان جاهزة للعمل على تنفيذ التزاماتها تجاه المكتتبين.
نقابة المهندسين
بدوره أشار المهندس حكمت إسماعيل رئيس فرع نقابة مهندسي طرطوس إلى أنه في السابق كان يتم توزيع أراض من البلديات لصالح الجمعيات السكنية بأسعار مخفضة عن سعر السوق، وكان ذلك مشجعاً للحصول على بناء سكني، كما كان يتم منح قروض تغطي كلفة المنزل، إضافة لوفرة في المواد الأولية من بحص، ورمل، وعمال من ضمن المحافظة، وكانت أجور النقل مقبولة حتى من خارجها، في حين بات الوضع مختلفاً حالياً نتيجة الحرب التي شنت على بلدنا، والحصار، وغلاء المحروقات، وصعوبة الطرقات، وصعوبة الاستيراد، والارتفاع الحاد لأسعار المواد الأولية، والمواد المستوردة، أو التي تعتمد على مواد أولية مستوردة، وقلة وندرة اليد العاملة العادية والفنية، وكذلك التضخم المالي، ولفت إسماعيل إلى أن النقابة تسعى جاهدة لتدارك بعض الصعوبات الممكنة، فالأتعاب الهندسية مازالت متواضعة إذا ما قورنت بالأتعاب التي تنالها مهن أخرى، ومجمل هذه الصعوبات حالت دون إمكانية الحصول على مسكن لائق يطمح إليه المواطن، ولاسيما الشباب.
رد المصرف العقاري
نظراً لأهمية المصرف العقاري ودوره المهم في عملية تنشيط القطاع السكني وتحفيز دورة الإقراض بغية المساهمة في عجلة النهضة العمرانية، فقد توجهت البعث ببعض الأسئلة للسيدة زينا أسعد مديرة فرع المصرف في طرطوس، حيث أشارت إلى أن المصرف يقوم بمنح القروض لغاية شراء مسكن جاهز بسقف خمسة ملايين بعد وضع وديعة بقيمة /2,5/ مليون لمدة ثلاثة أشهر، كذلك يقوم بمنح قروض لغاية الشراء والإكساء بسقف خمسة ملايين، في حين يقوم بمنح قروض بقيمة مليوني ليرة لغاية إعادة الإكساء /ترميم/ سابقاً، وبخصوص إطالة مدة تسديد القروض إلى 20 سنة، تقوم الإدارة العامة للمصرف حالياً بدراسة هذا الموضوع، وفي موضوع منح القروض بضمانة العقار، إضافة لملاءة المقترض المالية دون كفلاء، فقد بيّنت أسعد بأن المصرف بهدف الحفاظ على أموال المودعين يطلب دراسة الملاءة المالية للمقترض، وإذا لم تكن كافية يطالبه بتأمين كفلاء، علماً بأن القانون لا يسمح إلا باقتطاع 40% من الراتب.
خلاصة
اتفق كل من أدلى بدلوه في هذا القطاع الشائك الذي رسم خطوطاً حمراء لأخطر مشكلة يعاني منها الشباب، وتشكّل أحد أسباب العزوف عن الزواج في ظل هذا الارتفاع غير المبرر، رغم ارتفاع أسعار المواد الأولية، ومع ذلك فإن هذه “الهبة” والطفرة في المعروض لفترة محدودة جداً يؤكد بأن كثرة العرض لم تكن إلا نتيجة مقلقة، وهي محاولة البعض “لتبييض أموال” تم جمعها بشكل ما وتشغيلها في أكثر النشاطات الاقتصادية الرابحة للغاية، ومضمونة النتائج، وهذا ما يفسر حجم ودائع المواطنين السوريين برأي خبراء المصارف الذي زادت قيمتها لأكثر من 1500 مليار ليرة سورية خلال الفترة الماضية من هذه الأزمة التي تمر على سورية، وهذا سببه المباشر هو تعثر النشاط العقاري وجموده بعد “فورة” العرض، الأمر الذي دفع المودعين لوضع مدخراتهم في المصارف السورية لظروف تتعلق بعزوف الكثيرين عن شراء مسكن في ظل هذا الارتفاع، فهل نشهد عودة ولو جزئية لتنشيط قطاع يشكّل الشباب فيه محركه الأساسي لغاية السكن والاستقرار الاجتماعي والعائلي، لاسيما أن الأسعار الحالية لا تشير إلى حالة طبيعية ومرضية لهؤلاء الحالمين بمسكن لا تزيد مساحته عن 100 م2، بحلم بات ربما أقل من ذلك!.
لؤي تفاحة