يسلبون.. حتى حرية الصمت
لم يشفع لشيخ الرواية السورية ما تركه من إرث أدبي ثر قبل الرحيل، لتجنب الموت مرتين، ولم يقه صمته الأخير واعتزاله الناس غدر من حمل همهم كلمة وتفكيرا. هو الذي كتب تراجيديا الألم والمعاناة الإنسانية في أكثر من 45 عملا أدبيا.
اتهم صاحب “نهاية رجل شجاع” انه عاش خائفا ومات خائفا، مع انه دخل السجن وعاش حياة المنفى بسبب مواقفه المناهضة للمحتل الفرنسي الذي سلب أرضه “لواء اسكندرون” وأهداها عربون صداقة للعثماني، وهربا من بطش الرجعية التي لاحقت المثقفين اليساريين تعرض في سنواته الأخيرة وبعد أيام من رحيله لشتى أنواع التشكيك والتشهير في محاولة لتجريده من أي صفة إبداعية لأنه لم يتبن أفكارهم وأيديولوجياتهم على مبدأ إذا لم تكن صديقي فأنت عدوى، فاتهم من قبل صغار الكتبة بأنه اقتبس معظم رواياته عن الأدب العالمي، وان أعماله الأخيرة فارغة من الفكر والمضمون.
أصوات عديدة تعالت تقلل من أهمية ما أبدع “زوربا الروائيين العرب”، منهم من لم يقرأ ولا أثرا واحدا له، دافعهم الأوحد الحقد على رجل آثر الصمت على الدخول في سجال عبثي هدام، لكن دعاة “ثورة الحرية والكرامة” لم يتركوا له حرية الصمت أو الاعتكاف بعيدا عن العبث المدمر للأوطان.
حنا مينه الذي كتب في وصيته “صرت أخشى ألا أموت” كان يعرف انه سيموت مرتين على يدي دعاة “الحرية والكرامة”، لذلك قد يكون عناهم استقراءً عندما “أوصى ألا يذاع خبر موته” ليس لي أهل، لان أهلي جميعا لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل لذلك ليس من الإنصاف أن يتحسروا عليّ عندما يعرفونني بعد مغادرة هذه الفانية” يبدو أنهم لم يعرفوه حتى بعد رحيله ولم يقرؤوا سنواته التسعين على النحو اللائق، لأنهم كانوا ينتظرون منه أن يرفع راية المحتل أو النصرة وداعش ليغطي الشمس بالسواد. لكنه لم يحقق لهم ما نشدوا، هو المؤمن بأن معظم رجال القلم يجب أن يكونوا مع التقدم وهذا ما عبر عنه في كتابه “كيف حملت القلم”، ومن هو مع التقدم يعز عليه أن يرى وطنه يخرَّب. وكأنه يتبنى ضمنيا، رأي دوستويفسكي الروسي في رواية “الممسوسون” عندما صور الثوريين الحالمين بمجتمع خال من الطبقات كأنهم مجموعة من القتلة المحترفين عديمي الأخلاق، يقولون كلاما جميلا في الجلسات والصالونات، غير أنهم لا يترددون في قتل احد رفاقهم بدم بارد وإلقاء جثته في مستنقع عندما يحاول الانفصال عنهم”.
لم يقرؤوا “بلزاك الرواية السورية” لأنهم لو قرؤوه لما كانوا تجنوا عليه بعد مماته وفي سنواته الست الأخيرة فمن قرأ “حكاية بحار لن ينسى سعيد حزوم ونقمته على الظلم والاضطهاد والفقر ولعبة الكراسي والحكام، هذا الرجل الذي كان حلمه بسيطا، لا يتعدى رؤية عروس البحر التي خرجت إليه ذات ليلة صيف، لكن المينا حولته إلى متمرد غاضب.
ومن يقرأ “الربيع والخريف” لن ينسى أكرم مجاهدي المثقف العربي الذي يسعى في بلد الاغتراب لخلق حالة حوار مع الآخر حاملا معه لغته وثقافته لإقناع الآخر بها. ولن ينسى فياض في رواية “الثلج يأتي من النافذة” الكاتب اليساري اللاجئ في بيروت والملاحق لأنه ينشد الحرية، أو يعيش مع الصياد زكريا المرسنلي في الياطر “مرساة المركب” مغامراته بعيدا عن صخب المدينة وتعقيداتها وحلمه بوطن متحرر من الاستعمار والاستغلال، وكذلك مع الطروسي في “الشراع والعاصفة” التواق للهروب بعيدا لولا أن البحر يسكن داخله، والذي يمثل الرجولة والإرادة البشرية المغامرة بكل عنفوانها.
كل تلك الشخصيات وغيرها التي رسمها حنا مينه على الورق في (الأبنوسة البيضاء– الدقل – حكاية بحار– رسالة إلى أمي – على الأكياس – مأساة ديمتريو – نهاية رجل شجاع وغيرها)، بعد رحلة حياة طويلة، ستبقى حية في عقول السوريين المتنورين على مختلف أطيافهم وتياراتهم ولن يستطيع حفنة قليلة من الموتورين النيل من قامة كبيرة نقلت الرواية السورية والعربية إلى مختلف شعوب الأرض. فاعذرهم حنا مينه إنهم لا يعلمون.
آصف إبراهيم