“بلطجة” أمميّة سريّة
دون مبالغة يمكن القول: إن القوى الكبرى في هذا العالم، مضافاً إليها دول المنطقة بأكملها، تقف اليوم على مشارف إدلب متحفّزة ومترقّبة لما سيحصل هناك كي تحدّد وجهة سياستها اللاحقة، ليس بشأن سورية ومستقبلها فقط، بل بشأن قضايا عدة في هذا العالم يتوقّف مسارها الحالي كما مآلاتها المستقبلية على مسار ومآل الحل في إدلب، وهنا تحديداً يمكن فهم هذا الانخراط العسكري لمجموعة واسعة من القوى الدولية والإقليمية، سواء تلك التي تقف على مشارف المحافظة كحليف للدولة السورية في مسعاها لحل معضلة إدلب، وبالتالي حل مشاكل المنطقة بكاملها، أو تلك التي تمتلك “جيوشاً” داخل المحافظة، يناور بعضها بالسياسة، كأنقرة، ويهدّد بعضها الآخر بالقوة، كواشنطن، من أجل الحفاظ على الوضع الراهن الذي يناسبها أكثر لتحقيق مصالحها القائمة أساساً على “الفوضى المستدامة”، وهي فوضى لا يمكن لها أن تستمر إلا على حوامل الإرهاب والإرهابيين.
وبالطبع ليس الشق العسكري وحده هو الأسلوب الوحيد لخوض هذه المعركة المفصلية، فهناك السياسة التي هي، بمفهوم مخالف لعبارة “كلاوزفيتز” الشهيرة، امتداد للحرب بصورة أخرى، وتقوم اليوم على حاملين اثنين، لكنهما متداخلان بصورة لا يمكن معها فصلهما عن بعضهما البعض، الأول، عرقلة عودة المهجّرين تحت ذرائع متعدّدة، والثاني، ربط قضية إعادة الإعمار بشروط سياسية، وهو ما فعلته أمريكا وأوروبا علناً، وما فعلته الأمم المتحدة سراً، كما كشفت مؤخراً صحيفة “كوميرسانت” الروسية.
والأمر فإن الصحيفة المذكورة نشرت منذ يومين النسخة الأصلية لوثيقة أممية باللغة الانكليزية مع ترجمتها تتضمّن “توجيهاً” داخلياً صدر في تشرين الأول عام 2017 “يتمتع بصفة الوثيقة الداخلية لسكرتارية الأمم المتحدة، ويحدّد مبادئ عمل بنى المنظمة الدولية ونشاطات ممثليها في سورية”، وهو، أي التوجيه، يقيّد، بصورة مباشرة، إعادة الإعمار في سورية عبر ربطها بأهداف سياسية تشترط رحيل القيادة السياسية الحالية. ولأن القاصي والداني يعرف أن عودة المهجّرين السوريين إلى بلادهم ترتبط بنسبة كبيرة بالتقدّم في ملف إعادة الإعمار، فإن العرقلة الأممية الفاضحة لهذا الملف تعني إبقاء المهجّرين، حيث هم لترك الجرح السوري مفتوحاً، وبالتالي تكون المنظمة الدولية الأكبر قد قرّرت بصورة واعية، وبما يتجاوز دورها وما نصّ عليه ميثاقها، استخدام قضية إنسانية بحتة لأهداف سياسية لا علاقة للمنظمة الأممية بها، ويصبح ما حفلت به بقية سطور الوثيقة من كلام عن وجوب “أن تبقى خطة العمل الإنسانية، متّسمة بالطابع الإنساني البحت” من أجل “تنفيذ النشاطات الإنسانية الحيوية والهامة لإنقاذ الأرواح وتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية”، مجرّد “لغو” لا طائل منه، أو “فذلكات” كلامية لا معنى لها على أرض الواقع، خاصة في ظل عدم قيام المنظمة الأممية والدول الأعضاء الفاعلة فيها بتقديم ما تعهّدت به في مؤتمرات صاخبة براقة عُقدت في سياق “خطة العمل الإنسانية” من مساعدات للمهجّرين ولدول الاستضافة التي بدأ بعضها، كتركيا، في إنشاء المخيمات للمهجّرين قبل إطلاق أي رصاصة بهدف استغلالهم لاحقاً في السياسة، وهو عين ما تحاوله المنظمة الأممية اليوم.
بيد أنه حين نعرف أن كاتب هذه الوثيقة هو “جيفري فيلتمان” النائب السابق للأمين العام للأمم المتحدة، نعرف أن واشنطن هي من تقف خلف هذه “البلطجة”، فالرجل لم يُعيّن في منصبه إلا لهذه “الشدائد”، أما الأمين العام، ولو افترضنا فيه حسن النية، وبغض النظر عن اسمه وجنسيته، ما زال وأمانته العامة، في ظل موازين القوى العالمية الحالية، مجرّد موظف كبير في دائرة من دوائر الخارجية الأمريكية، فما هو “إلا من غزية إن غزت”، هنا إن “بلطجت”، مهمته الوحيدة أن يراقب من خلال زجاج نافذته الأزرق في نيويورك الطائرات الأمريكية، وهي تقلع لتدمير بلد جديد، وهذه المرة، يقول: حسناً فليبقَ السوريون في معاناتهم، مادام “فيلتمان” يرى أن دوام الخراب هو ما يحقق مصالح بلاده في هذه المرحلة من الحرب العالمية الدائرة في سورية وعليها.
أحمد حسن