أرق للبيع!؟
د. نهلة عيسى
أنا مدمنة أرق، والأصح رهينة أرق غريب هجين، مستنسخ من القلق والوجع والتفكير المزمن، ومن الصبر المرقع بالادعاء، وبقايا كرامة صدئت بفعل التكاثر الأرنبي للأيام المهينة، وبفعل العجز عن الفعل رغم الرغبة، لأن الزمن للقتلة ولجمعية المنتفعين من وجع الوطن، ولا سلاح في يدي سوى قلم، رصاصه لا يصيب أحداً، لأن القراءة في بلادي بلا أحد!.
لدي أرق سليط، يتجنبني فيه النوم، ويكرهني الاستيقاظ، فأتحول لظل شاحب هائم بين ماذا ولماذا وإلى متى؟ فأصب جام غضبي على نفسي وعلى النوم نفسه، ثم أعود فأطلق نار السخرية فيصدر الوجع، وأدخل في نوبة ضحك من حماقتي، وأذكر ذاتي، حذار من إطلاق النار على النتيجة، ونسيان السبب، هذا الأرق الفاجر ليس أرقك وحدك، انه جرح بامتداد وطن، وهو الوجه الثاني للموت اليومي البارد وأنا أرى سماسرة بيع الوطن وقد باتوا اسراب جراد تفكك بمناقير نهمها وخستها، ليس فقط ما بقي من الوطن، بل أيضاً جراحنا المخدرة بالألم المتواصل قطبة بعد قطبة، وتفك معها كل ياقات أخلاقنا وقيمنا، وتخلع معها عنا براقع تجلد واحتمال، كنا نخفي خلفها الغضب مؤونة، لعوز محتوم، في الصبر عليهم!.
لدي أرق وقح، لكنه بات أقل جوراً، من صباحات تتندى بإهدار كراماتنا على وقع هدير تصريحات العدو والصديق، والمسؤول غير المسؤول، نحن الذين اعتدنا الصحو وأنوفنا تفوح بعطر الياسمين، وآذاننا مترعة حتى الثمالة بصوت فيروز يبسم ليومنا بالرضا والتفاؤل بأن العمر طويل، والرزق وفير!.
لدي أرق رهين التحديق في الصور المتتالية لوجعنا الذي بات على مقاس أحذيتنا، فهذا شارع كان سترا وغطاء على حبك الأول، وهاهو يحترق أمام ناظريك بالغلاء والنفايات والبشر المخدرة بالبلادة، وذلك حيك القديم تحاول عبر ألسنة لهب الذاكرة المحترقة، أن تميز بعض جيرانك وصحبك فتناديهم بأسمائهم، وقبل أن تتعرف على أحد، أو تتأكد من وجود أحد تنقلب الصورة، فتسارع إلى اللحاق بواقع رث، وحسرة خائبة خائفة تستولي على قلبك من أنك ما تزال رغم كل ذلك تعيش!؟
لدي أرق فضولي، ينكب على وجوه الناس الشحيحة بالمشاعر، ويلاحقها كالظل اللجوج، محاولاً اكتشاف الفاعل، وساحة الجريمة، وعدد من ماتوا ومن جرحوا، وعرائش الياسمين التي احترقت، والأشجار التي تعرت، والفراشات التي تحنطت بفعل النار، وفعل الغدر، وفعل الكذب، وفعل المال، وفعل أحزاننا التي ملأت البحر، ولا عزاء للبحر!
لدي أرق أخاف فيه على النوم مني وأخاف منه، لأننا ونحن في الساعة المليون بعد الألف من جرح الوطن، ورصيف الصبر يضيق بنا، وجيوبنا خالية من تذاكر السفر، ننتظر على ضوء شمعة، وببرود يشبه الخيبة، أن تنعى إلينا أنفسنا، لأن طهاة موتنا في الخارج والداخل راعهم انتصار حماة حياتنا، فكان المقابل للنصر على الجبهة، موت يراعات الفرح على كل جبهة، وفي كل قلب، وجيب، وعين، وعقل، وكأنه حرام علينا أن يبقى في الوطن جذر أخضر، يمكن أن يورق من جديد!
لدي أرق ولكني لست صاحية، نحن الذين لم يبق القتلة والفاسدون في وطننا حرمة لمقدس، ولا قولاً لحكيم، ولا صوتاً يستنهض الوعي المجهض، والهمم المتثائبة، التي تتناسل ثرثرة وغوغائية وتقطيعاً في أوصالنا، لتتساقط قطعة تلو الأخرى مطبوخة ومتبلة وجاهزة للالتهام، على أعتاب فك من التهموا اللحم الغض للوطن، وتركونا وجهاً لوجه أمام اليأس، وأمام قوائم للعار ابتدعوها، يجردون فيها كل من ينتقدهم من وطنيته، وعارنا كل عارنا، أننا عليهم صمتنا!.
لدي أرق متعب بي، يجبرني حين ترتدي المدينة ظلامها، على أن أهيم على وجهي في الشوارع والأزقة والصور العتيقة، أقرع أبواب من رحل من أصحابي، وأطل على وجوههم من النوافذ، وأزيح تابوت النسيان عنهم، فتبدو لي صورهم غضة وطفلة كما عرفتها يوم قابلتهم في الزمن البعيد، فنتبادل الابتسامات، ثمن تبادل العناوين الجديدة، ونلوح بالتحية وصوتهم في أذني يقول: اصبري فالموت أيضاً ليس عادلاً، فيغمى علي، فأبدو كأني غافية، ولكني لست غافية، فهل من مشتري أرجوكم.. لأرقي!؟.