دراساتصحيفة البعث

دفاعاً عن الأمم المتحدة

 

ترجمة: عناية ناصر
عن موقع “ستراتيجيست” 29/8/2018

في خريف عام 2001، في وقت ما بين هجمات الـ 11 من أيلول في الولايات المتحدة وغزو الرئيس الأمريكي جورج بوش لأفغانستان كنت أسير عبر البندقية مع ريتشارد هولبروك، الذي كان سفيراً للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في عهد الرئيس بيل كلينتون. رنّ هاتف هولبروك المحمول، وكان على الخط الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان.
كان هولبروك قد توقع المكالمة، تحدث مع عنان بثقة دافئة تولّدت من خلال تعاونهما أثناء ولاية كلينتون الثانية. كان عنان قد أقام شراكة مع هولبروك، الدبلوماسي الرئيسي الذي كان له دور فعّال في إنهاء الحرب في البوسنة، شراكة اعتبرها الرجلان ضرورية لتحقيق السلام والاستقرار العالميين.
إن الأمم المتحدة، باعتبارها الرمز الجوهري للشرعية الدولية وحكم القانون، والولايات المتحدة، باعتبارها تجسيداً للبراغماتية والقوة، كان لديهما نوع من التحالف. في الوقت الذي رحل فيه عنان، ربما ينبغي أيضاً أن نحزن على إضعاف موقف الأمم المتحدة على الساحة الدولية.
لم يكن عنان مثالياً، وتضمّنت حياته المهنية مآسي وأخطاء. في منتصف التسعينيات، عندما كان يشغل منصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لحفظ السلام، حدثت مذابح في رواندا، وفي البوسنة فيما بعد، لأن قوات الأمم المتحدة لم تقم بمسؤوليتها في الحماية. لم يتحمّل عنان أية مسؤولية حقيقية عن هذا الفشل.
ومع ذلك، كان عنان يمتلك مزيجاً من الكاريزما، والأناقة، والبلاغة، والسيطرة على النفس التي كانت حاسمة في الحفاظ على وضوح وشرعية الأمم المتحدة. لم يكن أيّ من خلفائه قادراً على تقديم هذه الصفات الحيوية، بما في ذلك أنطونيو غوتيريس، الذي تولّى قيادة الأمم المتحدة العام الماضي. في الواقع، على الرغم من السمات الإيجابية العديدة التي يملكها غوتيريس، فإن الحقيقة هي أن الأمم المتحدة تكاد تتلاشى بالكامل عن شاشة الرادار الدولية.
يقف العالم على شفا نوع من الفوضى لم نشهدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ تهدّد النزاعات القاسية التعددية وحكم القانون الدولي بتدمير النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب، مع اعتبار الأمم المتحدة ركيزة حيوية، لضمان ألا يكرّر التاريخ نفسه.
في أيامنا هذه، برزت الولايات المتحدة كمنتقد رئيسي للأمم المتحدة. من وجهة نظر الرئيس دونالد ترامب، فإن الأمم المتحدة عديمة الفائدة في أحسن الأحوال. بعد كل شيء، فهي تدافع عن التعددية وحكم القانون، في حين أن ترامب يدافع عن الصفقات الثنائية وحكم القوة!.
إحدى القوى العالمية التي برزت كداعم قويّ إلى حدّ ما للأمم المتحدة هي الصين. على عكس ترامب، تدرك الصين أن الأمم المتحدة يمكن أن تكون بمثابة منصة لها لتأكيد نفوذها العالمي، من خلال بناء قوتها الناعمة. ونتيجة لذلك، أصبحت الصين ثالث أكبر مساهم في الميزانية الدائمة للأمم المتحدة وثاني أكبر مساهم في ميزانيتها لحفظ السلام. وقد تعهدت الصين حتى بتقديم آلاف الأفراد في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، مما يدلّ على التزامها بالأمن العالمي. ولكن إعادة موقف الأمم المتحدة ونفوذها إلى المستوى الذي حقّقته في عهد عنان يتطلّب دعماً أقوى من أوروبا، وعلى وجه الخصوص من قبل فرنسا وألمانيا، إلى جانب قوتين ليبراليتين أخريين على الأقل، ربما كندا لتمثيل أمريكا الشمالية واليابان لتمثيل آسيا.
يبدي البعض شكوكهم في إمكانية قيام فرنسا وألمانيا بتحقيق أي تقدم في السياق الأوروبي، فكيف يمكن أن يتوقع منهما أن يقودا العالم إلى التعددية وسيادة القانون؟!. لا يمكن أن تقوم كندا بتمثيل أمريكا الشمالية مع وجود الولايات المتحدة القوية، واليابان هي مجتمع مسن، إن لم يكن هشاً.
ولكن ما هو البديل؟ إذا ظلّت هذه القوى الدولية، التي تملك نصيباً من القوة الناعمة سلبية، فسيستمر النظام الدولي في الضعف، إلى درجة يمكن معها أن تحتل المقام الأول القوة الوحشية بدلاً من الدبلوماسية والتعاون وحكم القانون.
ومع ذلك، تستطيع هذه الدول مجتمعة أن تحاول وقف تدهور المؤسسات الدولية، وأن تمنع العالم من الوقوع في العنف المنهجي الذي حدث في السابق. إذا كان من المرجح أن يصوّت الناخبون الأمريكيون لإبعاد الأغلبية الجمهورية في انتخابات مجلس النواب النصفية في تشرين الثاني، فإن فرص إنقاذ النظام الدولي ستكون أكبر.
من المرجح اليوم حدوث انجرار نحو الفوضى أكثر من أي وقت مضى خلال السبعين سنة الماضية، لكن ذلك ليس حتمياً. قد لا يكون لدينا أمين عام بالمزايا التي كان يتمتّع بها عنان، ولكن يمكننا ويجب علينا الاستمرار في النضال من أجل النظام العالمي الذي عمل من أجل بنائه.