إدلب مرّة ثانية وثالثة
إدلب مرّة ثانية وثالثة، وحتى استعادتها وتحريرها كاملة، فهناك قد تكون “أم المعارك” – كما يتوقّع البعض – وهناك أيضاً قد تنتهي القصة بتسوية “من نوع مختلف” تعيد بعض المسلحين إلى حياتهم العادية، وتحقّق الخروج المنسّق للمرتزقة الدوليين بانتظار تبييض الصحيفة الجنائية استعداداً للانخراط في مهام سياسية قادمة، أو أن يتوفّر أمر مهمة جديد بالانتقال إلى “جبهة” أخرى ودورة عنف منتظرة.
وقد يتكرّر سيناريو الغوطة والمنطقة الجنوبية مرة أخرى، ولربما بإيقاع أشد سرعة وكفاءة، خاصة وأن المسلحين اختبروا تجربة “العيش المشترك” تحت سقف الإمارة الواحدة، وتابع العالم معهم يومياً فصول الاعتقالات وعمليات الخطف والتصفيات الجسدية، المناطقية والفصائلية، بأبشع صورها، فقد تبخّرت “الثورة السورية” المزعومة كقضية بحد ذاتها، وتفرّق الممثلون قبل انفضاض العرض، وبعضهم لم ينتظر حتى قبض أجوره كاملة، ولم يتبق إلا أولئك الذين يتخبّطون في اقتلاع أشواكهم بأيديهم، وأردوغان في صدارتهم بالطبع.
لم يعد المهرجون “الباحثون عن الحرية” راغبين بالقتال أصلاً، ولم تعد لديهم أدنى قناعة بحمل السلاح إلا دفاعاً عن مصادراتهم وسرقاتهم من أراض ومزارع و”ما ملكت أيمانهم من حرائر” استولوا عليها بقوة سلاح “الثورة” إياها و”فتاواها” المزوّرة. لقد تحوّلت فئات كثيرة من هؤلاء إلى ولاة حرب وزعامات إقطاع ووجاهات أرياف أقصى ما يحلمون به الآن هو الإبقاء على الإدارة الأردوغانية للوضع في الشمال، والاحتفاظ بالخطوط مفتوحة مع عتاة اليمين الأمريكي المحافظ، في استعارة تافهة ووضيعة للتجربة الحريرية والجنبلاطية في لبنان مع سفارة واستخبارات عوكر، مع الاستمرار – بالطبع – بمشروع إقامة الإمارة الوهابية، التي كان يتعيّن عليها أن تجدّد في سورية إحياء التحالف الأطلسي الخليجي التركي في يوغوسلافيا السابقة في البلقان، وإقامة “بوسنة ثانية” في الشرق الأوسط، هذه المرّة، ومن خلال دايتون “سوري” يرعى المصالح التقسيمية الأطلسية، الطائفية والعرقية، في المنطقة إلى الأبد.
لم يقيض لنا القدر أن نشهد فشل هذا المخطط الكابوسي خلال أقل من ستة أعوام وحسب، بل وشهدنا كيف بدأ معسكر الحرب يتفكّك ويتحلّل على وقع الهزيمة، ويتخبّط ويتناهش في حمأة تناقضاته الخاصة، وكيف بدأ الجيش العربي السوري يرسم خطاً بيانياً متصاعداً من انتصارات قد لا تنتهي عند حدود إدلب مع تركيا، وقد تفرض عليه التزامات أمنية محدّدة في ضوء توسّع مفهوم الأمن الوطني وتعدّد وتنوّع طبيعة التهديدات الإقليمية والعالمية، العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاسيما أن هذا الجيش يعمل الآن في إطار ما يمكن أن نسميه محوراً، أو في تكامل مع منظومة مقاومة إقليمية ودولية صاعدة لها استراتيجياتها الواضحة وقناعاتها المتنامية بضرورة بناء عالم جديد أكثر عدالة ومساواة، بعيداً عن محاولات احتكار القوة والتلويح باستخدامها، وفي منأى عن العقوبات الأحادية الجانب والقطبية الأحادية، وهي منظومة تمتلك من التصميم الاستراتيجي والوعي العميق بالتهديدات العالمية الراهنة ما يجعلها أشد عزماً، وأكثر تصميماً من أي وقت مضى، على استكمال تحرير إدلب، وإجهاض مشروع الإمارة القاعدية، واستئصال الورم السرطاني قبل استفحاله، وذلك انطلاقاً من أن المدينة تحوّلت تحت سيطرة الميليشيات المسلحة، وبفعل الأطماع الأردوغانية خاصة، إلى “بؤرة” للإرهاب الدولي، وباتت تشكل تهديداً لا يقف عند الحدود والمصالح العليا للدولة السورية وحدها.
لن تنفع استعراضات القوة الأمريكية والفرنسية والبريطانية، والإزدواجية الأردوغانية بلغت نهايتها! أما العودة إلى لعبة الأرقام وتضخيم أعداد المسلحين في استعادة لسيناريوهات دي ميستورا في حلب، بل وتبييض سجل المجموعات التكفيرية من اللجوء إلى الأسلحة الكيماوية كمقدمة لتصعيد الاتهامات ضد طرف محدد، فقد باتت ممجوجة ومستهلكة وتبعث على الشفقة، إن لم تكن تكشف حدود الدعم الذي يمكن لمعسكر العدوان تقديمه لفلول المرتزقة. والحقيقة أن “القاعدة” بيعت مرة أخرى، وأن “عملية لا تعرف الرحمة” ستكون في إدلب، كما حاول أردوغان إرسال الإشارة بنفسه في الوقت الضائع، ولكن السيف سبق العذل، فالقضية – في المحصلة – على غاية من البساطة: إما أن تعود إدلب إلى حضن الجمهورية، وإما أبواب جهنم وإدلب ثانية في تركيا.
بسام هاشم