الراية الحقة: ولادة الامبراطورية الأمريكية
ترجمة وإعداد: عناية ناصر
بحلول العقد الأخير من القرن التاسع عشر، اكتمل تكريس المشروع الأمريكي كقدر محتوم، وحالياً تمتد الحدود الغربية للولايات المتحدة إلى المحيط الهادئ، مخلّفة وراءها الإبادة الجماعية للأمريكيين الأصليين، وشراء لويزيانا دون موافقة أهلها، وحربها العدوانية ضد المكسيك، ماذا بعد؟ هل تتابع تحولها الاستعماري خارج الحدود القارية أم لا؟.
كتاب ستيفن كينزر”الراية الحقة: ثيودور روزفلت، مارك توين، وولادة الامبراطورية”، هو تاريخ مضغوط للإجابة عن سؤال: ماذا بعد؟ كما أنه يتناول الدراما والقرارات التي صدرت في أربع سنوات 1898-1902 التي رصدتها أطروحة كينزر، والتي وضعت الأساس في مسار الحروب الأمريكية، والتوسع العسكري، والإطاحة بالحكومات خلال القرن العشرين، والقرن الحادي والعشرين، والذي اعترضته فترات قصيرة وغير دائمة من “الانعزالية”.
يجمّع المؤلف الخطاب البليغ والنقاشات الكارثية لأعضاء الكونغرس التوسّعيين، بما في ذلك الشخصيات الأساسية وهم: ثيودور روزفلت، والأرستقراطي هنري كابوت لودج، والعملاق الإعلامي ويليام راندولف هيرست، والنقاد الاجتماعيون البارزون المناهضون للامبراطورية، والخطباء الشعبويون، بما في ذلك: مارك توين، وليام جينينغز برايان، وقطب مصانع الحديد الصلب أندرو كارنيجي، لإلقاء الضوء على المشاعر السياسية المنقسمة، والمكاسب الكبيرة اليوم.
لقد استخدم بناة الامبراطورية مصطلحات قوية ومحددة بشكل إيجابي مثل “السياسة الكبيرة” لوصف تطلعاتهم نحو تفوق الولايات المتحدة بين القوى العالمية، ولتطلعات السوق العدوانية للرأسماليين الأمريكيين.
في المقابل، حذر المناهضون للامبريالية من تآكل الديمقراطية في الداخل، وصعود البلوتوقراطية، والعواقب السلبية للإخضاع العسكري لشعوب أخرى ضد إرادتها، متنبئين بما حدث بعد قرن من الزمان، بما وصفه تشالمرز جونسون بشكل قاطع “أحزان الامبراطورية”.
شرارة الاستعمار الخارجي
كانت الحرب الاسبانية الأمريكية عام 1898 الشرارة التي أشعلت سعي الولايات المتحدة للاستعمار في الخارج، وقد بدأت في كوبا، وسرقت بسرعة بورتوريكو، ثم الفلبين، وغوام، تم الاستيلاء عليها في الطريق إلى الفلبين، وهاواي، وقد تم كل ذلك في تسعة أشهر، في العلن، صوّر التوسعيون هذه الاستيلاءات كأعمال خيّرة: إنقاذ السكان المظلومين والمتخلفين لتعليمهم وتثقيفهم.
تم قمع حركات الاستقلال في كوبا والفلبين وهاواي بوحشية، كما قُتل مئات الآلاف من الأشخاص، وخاصة في الفلبين التي شنت فيها حرب عصابات حتى هزيمتها في عام 1902، في حين قام الجنود الأمريكيون بتعذيب واغتيال السجناء، وإحراق القرى، وقتل حيوانات المزارع، مقدمة للحرب الأمريكية في فيتنام، واتبعت الصحافة المطواعة الأوامر العسكرية، ولم تقم بأية تغطية غير مواتية.
كانت الحرب في الفلبين مرعبة بشدة، وبشكل خاص بالنسبة للنساء، فقد ذكرت مجلة “أنتي امبريالست ريفيو” أن الجنود الأمريكيين حولوا مانيلا إلى مركز عالمي للبغاء، بالإضافة إلى أقصى حد، العسكرة الأمريكية، وقد ذكرت جانيس ريموند في كتابها “ليس خياراً وليس عملاً” بأن استغلال الولايات المتحدة للبغاء، وخاصة خلال الحرب الفلبينية الأمريكية، خلق نموذجاً لمجمع الدعارة العسكرية في جميع أنحاء العالم، فقد أكد السلوك الجنسي للجنود الأمريكيين تجاه الفلبينيات هذا النظام الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الممارسة الاستعمارية في كوبا وبورتوريكو.
في هذه الأثناء، أظهر الداعون إلى الامبراطورية طمعاً كبيراً في إمكانية جلب عملاء جدد للبضائع المصنعة، وفي حالة الفلبين التي تشكّل نقطة انطلاق للأسواق الصينية واليابانية، ستستخدم القواعد العسكرية في الفلبين وغوام لحماية وتنمية القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية في شرق آسيا.
تضم موهبة كينزر الكبيرة أبحاثاً دقيقة، نشر من خلالها قصصاً كشفت الكذب وراء التفاهات التي سوقت للجمهور عن الحرب، ما قدمه كينزر بمصداقية هو صانعو “السياسة الكبار” من المغرورين، ومن الذين لديهم أرضية أكثر أخلاقية، والمتبصرون المعادون للامبريالية، ومن بين هؤلاء بوكر ت. واشنطن الذي حذر في حديثه ضد الامبريالية الأمريكية في الخارج من أن السرطان الذي في وسطنا، العنصرية وإرث العبودية، سيثبت أنه يشكّل خطراً على رفاهية البلد كهجوم من الخارج.. ظهرت العديد من الجماعات الأمريكية- الأفريقية المناهضة للامبريالية، وهاجمت الامبريالية الأمريكية بسبب غطرستها العنصرية البيضاء.
يتتبع كينزر من خلال الكثير من التفاصيل والفوارق الدقيقة العيوب القاتلة للخطيب الشعبوي الموهوب بشكل كبير وليام جينينغز براين الذي ساعد بخطابه المتناقض حول مأساة الفلبين في تحديد مصير مستقبل بلادنا كامبراطورية، وبالمقابل فإن وليام ماكينلي الذي ظهر عدوانياً سلبياً، والذي انتخب في عام 1896، ومرة أخرى في عام 1900، ظهر امبريالياً على مدار فترة رئاسته.
المنحنى العسكري
يتتبع الفصل الأخير “الألم العميق” منحنى العسكرية الأمريكية عبر القرن العشرين، وفي القرن الحادي والعشرين، وهو منحنى طويل لم ينته وهو لاأخلاقي، ولا ينحو نحو العدالة، في كل نهاية لهذا القوس المستمر، تؤكد كلمات اثنين من قدامى المحاربين في الجيش من الحروب الخارجية الأمريكية صحة فضح كينزر الولايات المتحدة الأمريكية في “الراية الحقة”، بدأ الجنرال سميدلي بتلر، المولود في عام 1881، مسيرته المهنية كجندي في مشاة البحرية في سن المراهقة، تم إرساله لكوبا وبورتوريكو أثناء الغزو الأمريكي لتلك الجزر، شارك في الحرب الأمريكية ضد الفلبين، حارب ظاهرياً ضد الامبريالية الاسبانية، ولكنه في النهاية ضد الثورة الفلبينية من أجل الاستقلال، وبعد ذلك تم تكليفه بمحاربة الصين أثناء “ثورة الملاكمين”، وأرسل أيضاً إلى غوام، وقد حصل على أعلى مرتبة، ومجموعة من الميداليات خلال الأعمال العسكرية الأمريكية اللاحقة، والتدخلات العسكرية في أمريكا الوسطى، ومنطقة البحر الكاريبي، والمعروفة باسم “حروب الموز”.
وكما اعترف بتلر في كتابه الشهير “الحرب كجريمة منظمة”، فإنه كان “بلطجياً للشركات الأمريكية”، ما جعل الدول آمنة لرأس المال الأمريكي، وانعزالياً أكثر من مناهض الحرب، ومع ذلك قام بفضح مستغلي الحرب في كتابه القاسي، وأظهر أن الحرب هي الابتزاز الأقدم والأكثر ربحاً، وذكر في كتابه أن مليارات الدولارات جمعت على حساب الأرواح التي أزهقت.
إن جعل العالم “آمناً للديمقراطية” كان، في جوهره، جعل العالم آمناً لتحقيق المكاسب من الحرب، وعن الدبلوماسية كتب بتلر “وزارة الخارجية.. تتحدث دائماً عن السلام، ولكنها تفكر في الحرب”، اقترح “التعديل من أجل السلام”: في جوهره إبقاء (الجيش، البحرية، القوات الجوية) في أرض الولايات المتحدة بغرض الدفاع ضد الغزوات العسكرية هنا.
وفي القرن الحادي والعشرين اقترح الميجور داني ساجورسن الذي قام بجولات مع وحدات الاستطلاع في العراق وأفغانستان إعادة تسمية وزارة الدفاع باسم إدارة المخالفات، وأسبابه في ذلك: انتشار القوات الأمريكية في 70 في المئة من دول العالم، وحالياً يقوم الطيارون الأمريكيون بقصف سبعة بلدان، والولايات المتحدة وحدها من بين دول العالم تقسم القارات الست المأهولة إلى ست قيادات عسكرية، وعملياتها العسكرية تتجاوز المصالح القومية للولايات المتحدة، وهي “منفلتة” من الاستراتيجية المنطقية، واحتياجات مجتمعنا، ختم ساجورسن.
ثغرات الكتاب
بالنسبة إلى كل نقاط قوة هذا الكتاب فإن الثغرة الأولى هي وجود المرأة في الحد الأدنى في تصوير كينزر للحركة المبكرة المناهضة للامبريالية، يرتكز كتاب “الراية الحقة” على التاريخ على النحو الذي قدمه “الرجال العظماء” الجيدون والسيئون، إن “المرأة العظيمة” في هذه الحقبة مثل فجين أدامز التي انتخبت نائبة رئيس الرابطة المناهضة للامبريالية بعد خطاب لامع، لم يكن لها سوى جزء قليل، كانت أدامز مشهورة ليست فقط كربة منزل في مستوطنة هال هاوس في شيكاغو، ولكنها أيضاً ناضلت بلا توقف ضد الامبريالية والحرب، وقد احتفظ مكتب التحقيقات الفيدرالي بملف لها، ووُصفت بأنها من بين أخطر النساء في أمريكا، وهنا تغاضى المؤلف عن دورها في هذه الحقبة.
الثغرة الثانية هي إغفال خطايا أمريكا الامبريالية الأصلية: إبادة الأمريكيين الأصليين على أرضهم، واستعباد الأفارقة الذي أصبح في نهاية المطاف وقود محرك الرأسمالية الأمريكية، من سخرية القدر أن المؤيدين للامبراطورية في عام 1898 استخدموا التوسع الاستغلالي في وقت مبكر من الولايات المتحدة للدفاع عن تمديد بيان القدر إلى منطقة المحيط الهادئ، “إذا لم يكن يتعين علينا القيام بذلك في الفلبين، فلماذا كان مقبولاً القيام به هنا”؟!.