“هوّة في بابٍ عتيق” أنسنة الحرب
أغلب ما قرأته من نصوص حديثة في “القصّة، الرواية” وجدته يتّصف بسمة مائزة هي الغنائيّة والشعريّة العالية اللّتان تكادان تطغيان على هويّة النّصوص السّرديّة لدرجة تغييب جنسها الأدبي. ولعلّ القليل منها من انتبه لهذه المسألة، وحصر تبعاتها في زوايا معيّنة حسب مقتضيات التّوظيف ضمن سياق المكوّنات النصيّة الأخرى من “شخصيّات وأحداث وفضاءات حكائيّة مختلفة وأزمنة وأمكنة الخ…” لتبقى بهذا الشّكل ضمن حدود المعقول الذي يحافظ على أواصر انتمائها إلى نسبها الأصليّ، أيّ “النثر الأدبي”. ومن النّصوص الروائيّة الجميلة التي أدركتْ ضرورة وأهميّة التلاقح بين تقنيّات الأجناس الأدبيّة والفنون عموماً دون إغراق، كانت رواية السّوري “علي محمود ” المعنونة بـ “هوّة في بابٍ عتيق” الصّادرة حديثاً 2018م عن دار “آس” للطباعة والنشر في بانياس. وهي العمل الفنّي الثاني المطبوع له بعد روايته “سماء زرقاء واحدة لا تكفي”. وهنا تفوح رائحة سؤال مزهر حدّ الفرح لديّ ـ أنا على الأقل ـ كوني ملتاثاً بهذا المرض الجميل “الشعر”. هل يعني ذلك بأنّ عصرنا المجنون هو عصر الشعر؟ دعونا نحلم قليلاً، لأنّ الشعر بحد ذاته سليل الجنون والدّهشة، لذلك هو مؤهّل لحمل هذا العبء، بما يتوفّر عليه من سرّانيّة وشيفرات خاصّة تحفيزيّة وطاقات مخبوءة قادرة على دغدغة عواطف وشجون الدّاخل الإنساني المملوء بالنّدوب والشّروخ نتيجة الكوارث الاجتماعيّة والحروب، وغياب الآمال وتعمّق غربة الإنسان وقلقه الوجودي في عصر العولمة والتّقانات العالية الذّكاء، فبأسلوبيّته المحلّقة في الفضاءات، يبلسم المشاعر المجروحة لدى القارئ، و بأجنحته الخفّاقة في الأقاصي يرفد الروح التّواقة للانعتاق بأوكسجين الحلم المأمول، فتغفو مطمئنّةً على حرير الأمل.
العنوان الكهف
لعلّك لن تكون مسروراً صديقي القارئ بالمفاجأة التي تعتقد أنّها تنتظر خطواتك لتلتهمها وهي تعبر عتبة الرواية، ظنّاً منكَ بأنّها ستقع في “هوّة” فاغرة الأشداق، مفتوحة على جهات الرّيح الأربع، أو على العدم ربّما! لكن مهلاً أراك تستعجل الحكم، فالعتبة النّصيّة المعتمة التي تسيّدت الغلافَ كعنوان، ليستْ كذلك، إنّها أشبه بنافذة مشرعة على الحياة، وعليكَ أن تجتازها وتغرق في مياه مجازها لتحكمَ بنفسكَ. تلك هي ميزة العنوان العالية، تحقيق الصدمة والدهشة لدى القارئ منذ البداية وقد أجادها الكاتب في روايته الأولى، وهاهو يعمّق شِراكها في روايته الثانيّة، إنّها قفلة العنوان الذّكيّة ولعبته المقصودة، حيث ستفاجأ بدل العتمة بنجوم مضيئة وشموع تتسرّب أنوارها من كلّ الشقوق والفراغات المحيطة رغم كثافة الظلام والدّم، فلا تقنط من رحمة الرّوائي صديقي، أليس هو خالق كون النصّ بفضاءاته وألغازه؟ الذي لا يبخل بوهب مفاتيحه لكلّ من أدمن لعبة التّيه والمغامرة ومعانقة المتعاليات؟
في امتداح الرواية وكاتبها:
من قال بأنّ الموضوعيّة والامتداح ضدّان؟ ألا نعترف بطغيان رائحة الزّهور والطّيب عموماً على قلوبنا قبل أن تحاورها حاسة شمّنا، حين عبورنا حديقة غنّاء؟ هل نكون ضعفاء الإرادة، عاطفيّين، مستلبين، لو اعترفنا بذلك؟ أم أنّنا أشخاص أصحّاء راشدون بذائقةٍ شميّة مثقّفة، غير مثلومة، قادرة على استيعاب جماليات الكون وقد تكثّفتْ في زهرة؟.
إنّ كلّ ما يضاف للذائقة والحواسّ والمعارف الجماليّة عموماً، من طعوم وروائح جديدة يجب أن نقرّ به، وهذا هو شأن رواية “هوّة في بابٍ عتيق” التي تنتزع منكَ وأنت تعبر شرفاتها امتداحاً وجيعاً تستحقّه أقمارها وزهورها، التي رُويتْ بالدّم والضوء، وذلك لسببين أساسيّين هما: الأوّل، الجودة الأسلوبيّة التي توسّلها القصّ، مطعّمةً بالشاعريّة الموظّفة بإتقان ضمن السياقات السرديّة. والثّاني، هو أنّ الكاتب ابن المؤسّسة العسكريّة الوطنيّة التي نفتخر برموزها الشريفة صانعة انتصارات الوطن، الذي لم تمنعه أصوات الرصاص والمدافع من أن يبدع لحنه الخاص بكلماتٍ تنوء بثقلِ العذوبة واليناعة، ليحُقّ الكلام حينها، بأنّ البندقيّة حين تحكمها العقول النّيرة، لا خشيةَ على الوطن ولا على الهويّة ولا على وجهة الرّصاص. والانتصار الحقيقيّ، لن يكون يوماً، إلا بتضافر جهود هاتين المأثرتين “الكلمة، البندقيّة”. فالاحتكام إلى الكلمة هو من سيصحّح مسار البندقيّة بالضّرورة. وقد تتحوّل البندقيّة إلى غصن زيتون مغروسٍ في حديقة الماضي وحسب، حين تنتفي ضرورة الرّصاص، أو إلى مجرّد ذكرى عتيقة أليمة مكانها متحف التّاريخ.
جماليّات القصّ:
الرّواية من حيث التّجنيس تنتمي إلى “الواقعيّة الجديدة” وإلى الحساسيّة والوعي الحداثي الجديدين أيضاً، رغم توسّلها الوسائل التقليديّة من حيث زمن شخصيّاتها المتحرّك بشكلٍ أفقي إلّا ما ندر، وتجلّى ذلك واضحاً من خلال الومضات الخاطفة الاسترجاعيّة التي استدعتْ خلط الأزمنة بحكم الضرورة، لتأمين النّمو الكثيف للزمن السيكولوجي لدى الشّخصيّات أثناء مواجهتها للمواقف العصيبة، التي تتطلّب استدراكاً سريعاً لديناميكيّة اللّحظة ومتطلّباتها، من قبل الشّخص الواقع في خطرٍ محدق، بأن يسعى للنّجاة بنفسه ورفاقه، متّخذاً القرار الجريء والشّجاع فيما يمكن تسميته بـ “الزّمن الصّفر” وذلك بأقلّ الخسائر الممكنة في الأرواح والعتاد، وكذلك من حيث الحبكة التقليديّة أيضاً وانفراجها باتجاه نهاية أقلّ دراميّة، أقرب للأمنيات منها إلى الواقع، لكنّها لم تكن نهاية مجّانيّة، بل تعكس رؤية متفائلة، ووعياً مسؤولاً مدركاً لرسالة الأدب الاجتماعية التنويريّة، خصوصاً في ظروف الحرب، حيث تنعدم الآمال ويعمّ العبث والعدمّية ويتهتّك النّسيج الاجتماعي، وتختلط الخيوط ببعضها عند الكثيرين. وهذا لا يمثّل عودة إلى الوراء في المستوى التّقني الفنّي، بل هو موقف إبداعي يساهم في تجذير وتعميق الحداثة وإكسابها هويّة وطنيّة وخصوصيّة حقيقيّة في الأزمنة الاستثنائيّة الأحداث، يقول الرّوائي المصري “إدوار الخراط” أحد منظّري الحساسيّة الروائية الجديدة: (الحداثة، في الواقع قربى حقيقيّة، إرث كامل من الثقافة العربية، فالفكر العربي يغتذي من الملحمي، والجماعي، واللّاواقعي، والمسكون بالجن والأشباح؛ بدءاً من الفولكلور الشعبي الذي ما يزال يعيش في حكايات ألف ليلة وليلة إلى تحدي الواقع المدني المسكون بالمعابد، والكنائس والمساجد…) وقد تقاطعت خصلات عدّة في تشكيل ضفيرة السّرد في الرواية المذكورة منها الشاعرية، التقنية السينمائية، المسرحة، أسلوبيّة القصة القصيرة المتجلّية بالإيجاز وكثافة اللغة وإيقاعيّة الجمل وتعدّدية الأصوات السّرديّة التي وزّعت ألقابَ البطولة على أناس عاديين ولم تخلعها على رموز وأبطال خارقين وإن كان بعضهم يستحقّ ذلك بمعنى ما. لقد جعلتْ القادة أشخاصاً عاديّين يخطئون ويصيبون ويعشقون ويتذكّرون لحظات الفرح، لكنّ حياة الميدان تتطلّب وعياً آخر، يحتّم عليهم أن تكون أيديهم على الزناد وحسب. لأنّهم المؤتمنون أوّلاً وأخيراً على الوطن في لحظات الخطر، وبذلك تكون الرواية قد كسرت احتكار البطولة المطلقة للفرد ووضعته ضمن شرطه الجماعي الطّبيعي، مما أضفى المزيد من الإقناع والتّشويق على الأسلوب السّردي عموماً، وهذا بحد ذاته يعكس نضجاً فنيّاً ومعرفياً لدى الكاتب، ابن المؤسسة الصّارمة التي لا تقبل شعارات الديمقراطية والحوار أو تعدّد الآراء، بل شعارها كما هو معروف بكلّ جيوش العالم “نفّذ ثم اعترض”. فبطلُ القصّة الأساسيّ هو الضابط “أمجد” وهو أحد وجوه الكاتب، بل هو وجه كلّ شخص مؤمن بقضيّته على مرّ الأزمنة والجغرافيّات، الذي رفض إلّا العودة إلى الصفوف الأولى التي كان فيها منذ التحاقه الاحتياطي بالجيش، رغم إصابته وتحويله إلى عملٍ إداري. هذا العشق للتّضحية ليس عفوياً أو عاطفياً، بل هو وعي معرفيّ هضم الحياة وخيباتها وفرز الأعداء ومواقعهم، رغم العتم الكثيف الذي أحاط بالمشهد الكلّيّ،على الأقلّ في البداية. وعيٌ يمتحُ من زادٍ عشقي واقعي كبير خصّته به حبيبته “روز ماري” التي كانت بمثابة وطن آخر احتضنه في أشدّ لحظات البؤس والقهر وانعدام الأمل. روز ماري أو “إكليل الجبل” الذي امتزجَتْ بعصيره الصّفات الجمالية للمؤنّث مع صفات المذكّر “يوسف بركة” تلك الشّخصيّة الرّديفة التي ابتدعتها مخيّلة الكاتب لتستقيمُ معها معادلة العطاء والخلق.
ومن جماليّات القصّ وأهميّته، أنّه يُروى، ونحن ما زلنا نعيش ضمن أتون العاصفة السّورية التي لم تهدأ زوابعها، ولم تجفّ دماء شهداءها عن حجارة وتراب الوطن بعد. كما أنّ حبر كتابته مازال طرياً أيضاً، وقد كُتبَ بلسان التعدديّة والاختلاف والمغايرة التي نأمل أن تكون عناوين المرحلة القادمة. كما نجحتْ الرواية في إيجاد مسافة موضوعية بينها وبين الحدث، وهي مسافة معرفيّة ساهمتْ في تحصين وعي الكاتب ضدّ الفئويّة والمذهبيّة والنظرات المناطقيّة الضّيّقة، حيث استطاع من خلال سرده الشّفيف أن يعكس الوجه الآخر للحرب الذي لا يرى في البطولة انتصاراً ماديّاً يصنعه رموز الصفّ الأول وحسب، بل ويصنعه أولئك الذين يعيشون في الظل وراء الكواليس. الجنود المجهولون على مرّ التّاريخ. كما أنّ معاني البطولة لا تكتمل إلّا بلملمة الطاقات ورأب الصّدوع العميقة التي حفرتها آلة الحرب الرهيبة في الأرواح. وهذا ما تجلى بعشق أبطال الرواية لثقافة الحياة، فهم ليسوا طلاب شهادة مجانيّة بل هم واعون لما يقدّمونه من تضحيات، بنفوسٍ غير هيّابة لا تبخل ببذل الغالي والنّفيس، لتغدو الحياة جميلة، ومستطاعة أمام من يبقى منهم حياً، وأمام الأجيال الصاعدة. هذا النّضج في فرز الأبطال الحقيقيين من المزيّفين هو ميزة إضافيّة للرواية التي لم ينسَ صاحبها لحظةً، أنّه يشيد عملاً تخييليّا بالدرجة الأولى. كما مكّنته أدواته الفنيّة الممسوكة جيّداً من الوقوع في مطبّ الحشو الكلامي والتقريريّة والمباشرة المجانيّة التي لم تنجُ منها معظم الأعمال التي غلّبتْ المضمون الإنساني أو الفكري أو الاجتماعي على الشكل الفني، بحجّة الرّسالة التّنويريّة للجماهير.
إنّ خلطة الواقعيّ بالتّخييليّ التي أجاد الكاتب جبل طينتها في عمله الإبداعي الثّاني، بمهارة تُحسب له، خوّلته الانضمام بثقةٍ كبيرة، إلى قافلة العشّاق الكبار. فأن تقرأ عملاً عن الحرب المدمّرة لكلّ شيء في الحياة، وتراه مشبعاً بثقافة الحياة بنفس الوقت، يعني أنّ صاحبه قد وعى مقولة الكتابة الجوهريّة، الملخّصة بـ “اللّيث الذي يهضم جميع الخراف”. تلك الخراف سمّنتها وغذّتها تجربته الذّاتيّة الوجوديّة العالية وقراءاته الكثيفة وحساسيّتة الخاصّة الماهرة في التقاط التفاصيل وملاعبة شياطينها، ألا يُقال بأنّ الشياطين تكمنُ في التّفاصيل؟.
أوس أحمد أسعد