ثقافةصحيفة البعث

فايز زهر الدين.. أحب وأعطى ورحل بصمت

 

فقدت الأوساط الموسيقية مؤخراً عازف العود فايز زهر الدين وهو من أهم أساتذة تعليم العزف على العود، وقد أخلص للعالم الذي اختاره، لذلك كان من الطبيعي أن لا يتعامل مع الموسيقا إلا كجزء أساسيّ من حياته التي أمضى جلَّها بتعلمها ومن ثمّ تعليمها في المعاهد الموسيقية، فكان أحد مؤسسي صفّ العود في معهد صلحي الوادي للموسيقا والمعهد العالي للموسيقا، وكان يرى أن تراجع الموسيقا والأغنية على المستوى العربيّ يعود لقبول الكلمات الضعيفة والألحان التي لا ترتبط بأي معنى، بينما كان الفنان سابقاً ينتقي الكلمات المدروسة واللحن الموسيقي الرفيع ويبتعد عن المحسوبيات التي لا تؤدي إلى حالة جمالية راقية إلى حد وصل فيه معظم الفنانين في الماضي إلى مرتبة رفيعة المستوى، مشيراً إلى أنه على أيّ فنان يرغب بالوصول إلى مرحلة ترضي الذائقة الإنسانية على مرِّ الأيام أن يحترم الكلمة واللحن، إضافة إلى أهمية وجود الصوت الجميل.

علامة فارقة

وقد نعتْ أسرة معهد صلحي الوادي للموسيقا عازف العود فايز زهر الدين مؤسس صف العود فيه، وبيّن مدير المعهد فادي عطية أن الراحل كان الأستاذ المعطاء الذي أحب وأعطى ورحل بصمت، وكان حجر الزاوية الذي وصل تلاميذُه إلى العالمية، وكان قمة في الأخلاق والعمق والمحبة وهو الذي لم يحب الظهور يوماً وقد أعطى كلَّ ما لديه من فنون الريشة وعلوم العزف على آلة العود، ووصلت قدرتُه الموسيقية إلى وضع مناهج العزف في الجامعات الموسيقية في أميركا.

وعلى مبدأ من ثمارهم نعرفهم أوضح عطية أن الراحل كان أستاذاً لأهم العازفين السوريين على آلة العود أمثال جوان قرجولي، وقد عُرِف بفهمه العميق للموسيقا وأصولها وطرق أدائها، وبأخلاقه وتواضعه، فكان أحد رموز الموسيقا الأكاديمية ومن عباقرة مدينة السويداء في الموسيقا، حيث كان فضله وعلمه الموسيقي على فناني سورية وخصوصاً عازفي العود كبيراً جداً، منوهاً عطية إلى أن الراحل وصل إلى ما وصل إليه بجهده الشخصي، وكان كريماً مع طلابه، ولم يقصده طالب إلا وساعده، لذلك كان رحيله خسارة موسيقية كبيرة لسورية، إلا أن ذكراه ستبقى خالدة وسيبقى علامة فارقة في الموسيقا العربية والعزف على آلة العود.

خسارة كبيرة

وأكدت الباحثةُ الموسيقية إلهام أبو السعود التي آلمها كثيراً رحيلُه وهي التي تربطها به صداقة طويلة وقد اجتمعا في معهد صلحي الوادي الذي عُرِف فيه كأستاذ متميز وكمربٍّ لديه قدرة عجيبة على تعليم الطلاب العزف على آلة العود، أكدت تميزَ طلابه الذين من شدة حبهم له تأثروا به وبطريقة عزفه، مبينة أن الراحل كان إنساناً خلوقاً ومهذباً ومتواضعاً، يعمل بصمت وقد نذر نفسه لتعليم العزف على العود ومدِّ يد العون لكل صاحب موهبة، وعُرِف عنه أنه لا يحب الشهرة ولم يسعَ إليها في يوم من الأيام، لذلك قصَّر بحق نفسه، مبتعداً عن المشاركة بأية فعالية من الفعاليات التي كانت تقام، مكتفياً برسالته في التدريس، وكانت جهوده واضحة من خلال طلابه الذين أصبحوا موسيقيين معروفين في بلدنا، لذلك ترى أبو السعود أنه برحيله فقد الطلاب أستاذاً عطوفاً ومربياً فاضلاً ومتميزاً.

عاش ورحل بهدوء

ويعتز الموسيقي جوان قره جولي بأنه كان أحد طلاب الراحل في معهد صلحي الوادي لمدة 8 سنوات، وحتى الآن يتذكر غرفته التي كان يعلِّم فيها الطلاب وكيف كانت تضم عدداً من آلات العود المعلَّقة على الحائط وكرسي خيزران، مشيراً إلى أن صفّه كان أفقر صف في المعهد وقد تحول إلى محراب يعلّم فيه الموسيقا لطلابه بما يتمتع به من هدوء اتسمت به حياته، وكما عاش بهدوء رحل بهدوء، وتكريماً وتقديراً لإخلاصه وعطاءاته الكبيرة في مجال الموسيقا أطلق جوان قره جولي حين كان مديراً لمعهد صلحي الوادي اسم الراحل على أحد صفوف المعهد أسوة بأسماء موسيقية كبيرة.

خير قدوة

أما الباحث الموسيقي بليغ سويد فيؤسفه رحيلُ فنان مخلص في عمله كان قد رهن حياته لتعليم الموسيقى والعزف على العود، وكان جلّ ما يهمه تنمية مواهب طلابه من خلال رعايتها والاهتمام بها وتوجيهها بشكل صحيح، وكان يعطي كلَّ ما يمتلكه من علم ومعرفة، مؤكداً سويد أن الراحل على الصعيد الإنساني كان لا يختلف عنه موسيقياً، وقد عُرِف بأخلاقه الحميدة، فكان مصدر احترام وتقدير من قبل الجميع، متمنياً من الجميع وخاصة أساتذة الموسيقا أن يكون زهر الدين قدوة لهم بإخلاصه لعمله.

يعطي دون مقابل

وأشار فادي زهر الدين ابن شقيق الراحل أن عمّه نشأ في قرية بسيطة في محافظة السويداء، وعُرف بحبّه للموسيقا، وآلة العود بالتحديد، ومن هنا درس بشكل أكاديمي على يد ميشيل عوض، ومن ثم كرَّس حياته لتعليم العزف على آلة العود، فكان من المؤسسين للمعهد العالي للموسيقا وصف آلة العود في معهد صلحي الوادي، ولم يقتصر تعليمُه على طلاب المعهد بل كان بيته مقصداً لكل راغب بالتعلم، كما عُرِف بإلمامه بتصليح آلة العود، مبيناً فادي أن عمه ما كان يحب الأضواء والشهرة والظهور، وكان مؤمنا برسالة الموسيقا وضرورة إيصالها بالشكل الأفضل وتسليط الضوء على الآلة الشرقية التي تتفوق برأيه على الآلة الغربية، منوهاً إلى أن الراحل عُرف إنسانياً على صعيد العائلة بكرمه ومحبته للجميع، وكان يعطي دون مقابل، وكرَّس حياته لتربية أولاد أخيه.

ويقول فيصل الجمال صديق الراحل أن عمرَ صداقتهما يعود لنحو 60 عاماً مضت، فقد كان صديقَ الطفولة والشباب، مشيراً إلى أن الراحل وفي عمر‏ الخامسة عشرة كانت أمنيته أن يكون عنده عود، ولكن كيف وهو لا يملك من ثمنه ليرة واحدة وثمن العود حينها كان خمسة وعشرين ليرة؟ ‏فكان الحل عبارة عن حصّالة توفر له ثمن العود من خرجية الأهل القليلة، وحين توجه إلى محل بيع الآلات الموسيقية عاد يحمل العود سعيداً وقد استطاع خلال أقل من شهر العزف على العود ألحاناً معروفة لفريد الأطرش بشكل جيد وصحيح، وحين أراد أن يدرس الموسيقا والنوتة ذهب إلى الموسيقي ميشيل عوض الذي كان معجباً بسرعة استيعابه وبريشته وقد أنهى دراسته بزمن قياسي، وبعد وفاة عوض أصبح يدرس العود بأسلوب الأخير، فدرس العزف على العود في معاهد ‏وزارة التربية والمعهد العالي للموسيقا والمعهد العربي للموسيقى لمدة ثلاثين عاماً، وقد تخرّج على يده عباقرة في الموسيقى وأصبحوا مشهورين وبقي هو في الظل، لا يحب الظهور والشهرة.

طاقة إيجابية

ولا يستطيع أمين مدير معهد شبيبة الأسد للموسيقا –التجهيز- هيثم أمين أن ينسى الراحل الذي درّسه مادة العزف على آلة العود خلال فترة دراسته في معهد إعداد المدرسين عام 1986-1987 وهو الذي عُرف بتميزه كأستاذ لآلة العود في منهجه الذي اتبعه في تعليم الطلاب العزف على آلة العود في الوقت الذي كانت فيه المعاهد تفتقد لوجود تلك المناهج، مبيناً أن الراحل اتصف بأنه موسيقي لديه قدرة كبيرة على منح طلابه طاقة إيجابية كبيرة، منوهاً أمين إلى أنه عرض على الراحل أكثر من مرة التدريس في المعهد إلا أنه كان يعتذر لضيق وقته، مبيناً أن رحيله خسارة للجميع على الصعيد الموسيقي والإنساني.

مهارة في التدريس

زاملَ نزار مواس الراحل في معهد إعداد المدرسين كأساتذة لمادة العزف على آلة العود في نهاية الثمانينيات، وكان مواس معجباً به وباجتهاده الشخصي في تعلّم العزف على العود فكان من القلائل الذين يعلِّمون بضمير، وتخرجت على يديه أجيال من الموسيقيين.. من هنا فإن رحيله خسارة كبيرة لسلك التدريس الموسيقي بشكل عام والعزف على آلة العود بشكل خاص.

أمينة عباس