محفظة حكوميّة “من ذهب”
لعلّنا سنكون قريباً جداً أمام منعطفات اقتصادية حادّة، قد لا تخلو من المفاجآت، وفق الترجمة الشعبية لمفهوم التغيير، إلّا أن علم الاقتصاد وتطبيقاته لا يكترث كثيراً للثوابت، فلا ثوابت في الاقتصاد، وبعضهم كان أكثر جرأة عندما رأى أنه “لا محرّمات” أيضاً.. وبالفعل قد تكون العبرة الحقيقية في العائد أو الحصيلة التنموية بكل تشعباتها ومساراتها، وليس بالشعارات والوجدانيات ذات الأثر الواهي عادة في دفاتر الحسابات وقراءات الجدوى.
من هنا نستطيع أن نبدد الهواجس بشأن مستقبل هويّة الاقتصاد السوري، بعيداً عن النظريات القديمة التي اندحرت أمام خصوصيات كل بلد، فلا نظريات جاهزة بتطبيقاتها في عالم اليوم.. وهنا نصل إلى جدلية العام والخاص، التي قد لا تتأخر لتكون موضوع الواجهة في حيز التداول الرسمي والشعبي، وقد جرى الحديث عن دراسة تعرض خيارات عدّة لمصير شركات القطاع العام الصناعي.
وبما أن إدارة التغيير أهم وأكثر حساسية من التغيير ذاته، سيكون ثمة حساسية عالية قابعة داخل ملف معالجة الشركات الحكوميّة، بعد تعدد الرؤى والخيارات “الجراحية” والتي بالتأكيد ستكون موجعة، لكن القرارات الجراحية ليست ذات شعبية حتى في عالم الطب والاستشفاء.
لقد كان تحويل الشركات الحكومية إلى مساهمة عامة أو خاصّة، بنداً بارزاً في سياق الدراسات التي جرى تداولها، ورغم تعدد المقترحات، إلّا أن الحكمة تقتضي التمسّك بهذا البند كخيار استراتيجي فعلاً، لأنه يضمن بقاء ملكية الدولة حاضرة بقوّة، إلى جانب نفض الغبار عن أصول هائلة مجمّدة أو خاسرة.
هنا تبدو بضعة مؤسسات حكومية كبرى مرشّحة بقوّة للدخول في المعترك الاقتصادي الجديد بمشهده الشامل، على أنقاض تلك الأصول المرشّحة لـ”الاندثار”، وفي اختصاصات بعيدة عن اختصاصها ومجال نشاطها، وقد يكون في مقدّمها المصارف الحكومية الأكثر ملاءة.. التجاري والعقاري والتوفير، إضافة إلى مؤسسة التأمين السورية، والتأمينات الاجتماعية، ومؤسسة التبغ، وشركة الاتصالات، وأمثال هذه الهياكل الاقتصادية الكبرى.
من الممكن أن تدخل كل من هذه المؤسسات كمساهم تأسيسي بنسبة أقلها 51 % في الشركات الحكومية التي ستتحوّل إلى مساهمة، وطرح الباقي من الأسهم للاكتتاب العام، أو الخاص على شكل بضعة شركاء بحصص متساوية من الـ 49% الباقية.. طبعاً هذا بعد دراسة وضع كل شركة مطروحة للعلاج، وتقييم أصولها، ثم إعداد دراسات الجدوى الكاملة والمتكاملة لعملها ونشاطها الجديد، قبل طرحها للمساهمة عامة كانت أو خاصة، والتجربة ليست بجديدة كلياً في قطاعنا العام، فالمؤسسة العامة السورية للتأمين تساهم في رأسمال البنك العقاري بنسبة 10%، ومصرف التوفير والمؤسسة ومؤسسة التأمينات الاجتماعية، مساهمان في بنك قطر – سورية، ولو أن المثال غير مطابق كلياً لما نطرحه.
بعيداً عن المعالجات الجارية على ملف الشركات الصناعية العامة، يجب أن يكون لمؤسسات الدولة، صاحبة الريع الكبير والعوائد المجزية، بصمات واضحة في مختلف قطاعات الاقتصاد، وألّا تقتصر أعمالها على الأطر الضيّقة لاختصاصاتها، خصوصاً البنوك، فقد درجت العادة في كبرى الاقتصادات العالمية أن تتولى البنوك الحكومية مهمة ترسيخ حضور الدولة في معظم الهياكل الاقتصادية الكبرى.
ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن “دويتشه بنك” الألماني امتلك 53 % من أسهم شركة مرسيدس لصناعة السيارات، التي أسسها كل من دايملر وبنز، وباتت الآن شركة مساهمة عامة تعود الحصة الكبرى منها للحكومة الألمانية ممثلة بالبنك المذكور.
لدينا المصرف التجاري السوري صاحب أكبر ملاءة نقدية، يعادل ” الدويتشه” في حسابات النسبة والتناسب بين الاقتصادين السوري والألماني، ومصرف التوفير الذي ينام على ملاءة هائلة، والتأمينات الاجتماعية التي تبحث عن ميادين لاستثمار 50 % من موجوداتها.
هو طرح يجب أن يوضع على طاولة الدراسة والقرار، الطاولة ذاتها التي يجري عليها تقليب خيارات إعادة ترتيب أوضاع أصول شركات القطاع العام الصناعي.
ناظم عيد