ثقافةصحيفة البعث

أنيس إبراهيم.. نغمات الناي تنهي انسحابها على نتوءات السهب

 

لم يسعف القدر أنيس إبراهيم ليرى مجموعته القصصية الخامسة التي أتمّها قبل أن يموت بيومين فقط، وقد كتب قصصها الأخيرة بين غيبوبة وأخرى.

كان قد قال لي أنه خطّط  لأن يصدر خمس مجموعات قصصية، و قد أصــدر أربع منها هي (التفاحة، أرض الديس، الجمــــار، لعبة لغة) بينما بقيت المجموعـــة الأخيرة مخطوطــــة وهي بعنوان (لملمات) عسى أن تصدر قريباً، إضافة إلى إصدارات أخرى للأطفال هي: النورس الأبيض، الغول، وهما مجموعتان قصصيتان، والعصفور وهي مسرحية.

انتهت بذلك تجربة في الكتابة – كنا نتمنى أن تستمّر أكثر من ذلك –  بدأت مع  المجموعة الأولى (التفاحة) والتي أسس فيها لملامح خاصة في الإبداع القصصي، من هذه الملامح: اللغة الشعرية الجذلة البعيدة عن الابتذال والتقعير والتي لا تشكل عبئاً على النص، والبنية السردية المتماسكة القوية والسلسة في آن واحد، إضافة إلى البعد الملحمي الذي يضفيه على أغلب قصصه، بأحداثها وشخوصها، وتمايز المواضيع وتنوّع الشخصيات.

كذلك تميّزت أغلب قصصه ببداية حارة جاذبة، فنجد أن بعض القصص من الجملة الأولى تضع القارئ في خضم الحدث، بينما نجد أنه في قصص أخرى يثير فضول القارئ مخلفا لديه تساؤلاً يدفعه لأن يمضي في القراءة، وهو في الحالتين يأخذ بالقارئ ويرميه بشغف في سياق النص.

تنتهي القصص بنهايات غاية في التأثير، فالقصة تنتهي كحدث ولا تنتهي كأثر جمالي، والنهاية تأتي إما نهاية حادة مفاجئة تعمل على تبئير إحساس المتلقي بمفاعيل الحدث، وإما مفتوحة بحيث يبدو وكأن الحدث قد علق في نقطة ما، وهو ما يخلف في إحساس القارئ تلك الرغبة بفعل ما، ليكمل ما لم يكتمل، وهذا أيضا ما يعمل على تركيز مفاعيل النص الجمالية.

حرص أنيس إبراهيم في نتاجه كله على اختيار مواضيع ذات علاقة بالهمّ العام، وقد قارب هذه المواضيع بحساسية مرهفة ومن زاوية دقيقة أضافت إلى قصصه خصوصية أخرى.

تنوعت البيئة في قصصه بتنوع الموضوع، والبيئة هنا تعني البيئة الحيوية، أي ليس المكان كوعاء جغرافي فقط، بل بكل مكوناته الحياتية، وهو في قصص بيئة ريفية (مرثية حمدان، أرض الديس، الطاحونة) وفي قصص أخرى بيئة مدينة (زمن الحرب، بلاط ولكن) وهناك قصص يمكن اعتبار بيئتها بيئة غير معينة رغم علائقيتها العضوية بالحدث (صورة من زاوية غير محايدة، الجمار، طقوس التعري، من أجل أغنية فقط، التفاحة) والبيئة غير المعينة، تعني البيئة الخاصة المقتصرة على مكان محدود، السجن، المدرسة، السيارة..

للتناص دور مهم في تجربة أنيس القصصية وقد نجح في توظيفه في سياق البنية السردية توظيفاً إبداعياً جمالياً، بحيث عمل على توسيع أفق النص وإعطائه عمقاً دلالياً، نجد ذلك في قصة (صورة من زاوية غير محايدة، طقوس التعري وأغلب قصص مجموعة لعبة لغة).

يتنوع البناء السردي من سرد مرسل يتدفق كتيار لا يتوقف إلا في نهاية القصة، كما في قصة مرثية حمدان، إلى ذلك الذي يقوم على التناوب بين الحاضر والماضي الذي يحضر على شكل تداعيات كما في قصة التفاحة،  بينما نجد قصصاً قد قامت على ما يشبه بنية المروحة التي تدور ويدور الحدث، لكنها مشدودة إلى محور لا تنفك عنه كما في قصة الطبل، وهناك قصص  تتمفصل بنيتها السردية على وحدة لغوية واحدة، في مداورة تعمل على ترسيخ الحدث الأساسي في القصة كما في قصة صورة من زاوية غير محايدة.

والسرد بمجمله خال من الركاكة والترهل لا يتعثر بتقعير لغوي أو مبالغات غير مناسبة، وهو يقوم على الترابط العضوي بين مكوناته بحيث يشكل كلا واحداً، هذا لا ينفي أنه في قصص كثيرة يمكننا قطف مقاطع ذات لغة شعرية، بحيث تصبح وكأنها قصائد نثرية منفصلة.

تقوم أحداث القصص على سببية منطقية غير مفتعلة، وتمضي في خط درامي سريع في بعض منها، هادئ في بعضها الآخر، كذلك الشخصيات تبدو حقيقية من لحم ودم، من الحياة بكل مفاعيلها، وليست افتراضية عمل على خلقها ليقوّلها ما يريد، وهي متنوعة وبسمات مختلفة.

على مدى تجربته وفي المجموعات الخمس، حرص أنيس على ألاّ يكرر نفسه، عامداً إلى تنوّع سمات ومحددات نتاجه الإبداعي ونجح إلى حد كبير في ذلك، وقد كتب القصة بأنواعها، الجادة والساخرة، قصص الأطفال، كما كان له تجربة في مسرح الطفل، ونال عدة جوائز عربية ومحلية.

لم تلق تجربة أنيس إبراهيم المتميزة ما تستحقه من اهتمام النقاد، ويعود ذلك إلى أنه لم يتقن اللعبة الإعلامية، ولم يسع إلى بناء علاقات شللية يقدّم نفسه من خلالها، كما أنه لم يحمل نتاجه في محفظة ليدور به على أحد ليعمل على تلميع اسمه، فهو كان مبدعاً أصيلاً هويته إبداعه فقط، لا بل كان يفعل ذلك أحيانا بنزق المبدع، الذي لا يستسيغ مناداة أحد بغير اسمه.

هناك آراء عديدة قيلت في تجربته القصصية منها رأي المرحوم أنطون مقدسي، الذي كان مديرا للتأليف والترجمة في وزارة الثقافة لسنوات طويلة، قبل إحداث الهيئة العامة للكتاب، حيث قال: إن تجربة أنيس تملك خصوصية وتميّز إلى حد التفرّد، وهي ذات لغة متفردة جذلة الشاعرية وغير متكلفة، حتى أنك تحسب أن أنيس إبراهيم هكذا يتكلم.

ظلّت الكتابة هاجس أنيس إلى آخر يوم من حياته، ففي الفترة الأخيرة كان يغتصب الوقت بين ألم وآخر، بين غيبوبة وأخرى، حتى أنجز مجموعته الأخيرة، أي أنه فعل مثل حمدان بطل إحدى قصصه بما بقي من قوته، بعروق يديه عمد إلى لي عنق الزمن قليلاً، لكن في النهاية..أنهت نغمات الناي انسحابها على نتوءات السهب، وانتهت بذلك حياة لم تكن لتستمر أكثر من ذلك.

مفيد عيسى أحمد