شرشف قصب (2)
د. نضال الصالح
لنحو سنة وبثينة تكتفي من محمّد بوصفه زميلاً لها في القسم، ولم تكن الكلمات بينهما لتزيد على “صباح الخير”، أو “مساء الخير”، حتى كان ذلك اليوم، بل ذلك المساء الذي جمعهما معاً وحيدين في المكتب بطلب من رئيس التحرير لإعداد تحقيق عاجل عن انهيار بناء حديث في أحد العشوائيات التي كانت تزداد تورّماً في دمشق يوماً بعد يوم، ولاسيما بعد أن بدأت الحرب تدفع بالكثير من الناس إلى مغادرة بعض أحياء مدنهم وبلداتهم وقراهم هرباً من جحيم الإرهاب الذي نبت في تلك الأحياء والبلدات والقرى على غفلة من الحياة التي كانت تمور بالحياة.
بعد أن أعلن المصوّر عن جاهزيته لمرافقتهما إلى موقع البناء المنهار، مضى الثلاثة إلى الموقع، ولم يكد يبلغاه، ثمّ لم يكد رجال الدفاع المدني ينتهون من انتشال الأجساد العالقة تحت الركام، حتى طلب محمّد إلى بثينة أن تسأل غير رجل وامرأة من المتجمهرين أمام البناء عن تاريخ المنطقة المتخمة بالعشوائيات من أطرافها جميعاً، فانتفضت بثينة في وجهه قائلة: “أستاذ نحن هنا لكتابة تحقيق عن انهيار البناء، عن أسباب انهياره وعن التاجر الذي قام ببنائه وعن..”، فسارع محمد إلى القول: “آنسة بثينة، لكي نعرف الحاضر علينا أن نعرف الماضي”، ولم يكد يتم ياء الماضي، حتى عاجلته بصوت يكاد يسمعه المتجمهرون جميعاً أمام البناء: “أستاذ ليس الآن وقت الفلسفة”.
من عادة محمد عندما يغضب، بل عندما يستغضبه أحد، أن يستعيد قول أبي الفتح البستيّ: “مَن أطاع غضبه، أضاع أدبه”، وكذلك فعل عندما لم تقدّر بثينة حجم الإهانة التي صفعته بها، فاضطرب جسده كلّه، وازدحم في حنجرته بركان من العبارات ليردّ بها عليها، لكنّ قول البستيّ الذي استعاده تلك اللحظة استعاد إليه هدوءه المعتاد، بل رصانته المعتادة عندما يُبتلى بجاهل أو أرعن يحاوره، ثمّ غادرها، ومضى يستطلع آراء بعض سكّان البناء المنهار، الذين ما إنْ أحسّ قليل منهم بأوّل سجدة للبناء على الأرض، حتى هرعوا إلى ما خفّ حمله وغلا ثمنه، ونزلوا إلى الشارع، فنجوا من ذلك المصير الرجيم الذي انتهى بغيرهم إلى أجساد لا حراك لها.
طوال الطريق من الحيّ الذي يقع البناء المنهار فيه إلى الصحيفة لم ينبس أيّ من محمد وبثينة بأي كلمة، ووحده كان السائق يثرثر بالحديث عن تجّار البناء، أولاد الحرام بتعبيره، وثمة ما يشبه اللازمة بين حديث وآخر يدفع بها إلى محمد: “بربّك أستاذ محمد بأيّ شيء يختلف مَن حملوا السلاح وقتلوا وخطفوا ودمّروا الحجر والشجر عن الفاسدين واللصوص والتجّار الذين لا يخافون الله في البلاد والعباد؟”، ولم يكن محمّد يردّ، لا لأنّه لم يكن يسمع اللازمة، بل لأنّه كان مشغولاً بتضميد جرح روحه الذي أضرمت بثينة ناره بسخريتها منه، ثمّ بالمقال الذي كان عليه أن يسلّمه غداً على أبعد تقدير إلى المجلّة التي كان رئيس تحريرها تمنّى عليه أن يكتب إليها مقالاً كلّ شهر عن مدينة من مدن سورية بعد أن كان قرأ له مقالاً عن حلب….. (يتبع)