نهاية الفقاعة الأردوغانية
انتهت اللعبة، وكرة اللهب التي تضخّمت تهدّد اليوم بإحراقه!. فصول طويلة أمضاها أردوغان في شراء الوقت قبل أن يجد نفسه اليوم محشوراً في المربّع الأخير، مُكرهاً على اللعب في الوقت الضائع؛ فما هو “الحل السياسي” الذي يريده الطاغية الإخواني في إدلب؟، وكيف يكون هناك حلٍّ مع جماعات إرهابية وهو الذي زجّ عشرات آلاف العسكريين والصحفيين والمعلمين والموظفين المدنيين في السجون والمعتقلات بشبهة التعاطف مع محاولة انقلابية فاشلة؟، ولماذا هذا الإلحاح الغربي على إدلب والخوف من عودتها إلى كنف الشرعية، فيما لا يهتم أحد لمصير مئات آلاف المدنيين طالما هي باقية تحت سيطرة واحتلال القاعدة؟ وهل يسنّ الغرب مذهباً جديداً في مساكنة الإرهاب والتعايش مع الإرهابيين على خلفية أن هناك واقعاً ينبغي الاستسلام له، أم أن هناك من يعاني من الشعور بالخسارة الحتمية ويشهد الهزيمة ماثلة بأم عينيه، وأن أقصى الأمنيات لا يتعدّى اليوم تأخير إعلان هزيمة المخططات الأطلسية والوهابية والعثمانية الجديدة في سورية، مرّة واحدة وإلى الأبد؟.
بالنسبة لأردوغان، إدلب أكثر من مدينة حدودية، إذ يمكن أن تساعد على تسويق عظمته في الداخل، أو تلبي أوهامه في التوسّع، وتوفّر له متسعاً لاستعراضات القوة الكاذبة؛ هي التكية الأخيرة التي كان يعوّل عليها للاحتفاظ بمشروعه الإخواني حياً وملتهباً، في المخيلة الجماعية الإخوانية العالمية التي تنفّست الصعداء مع صعود العثمانية الجديدة تحت زعامته، والتي حقّقت في وقت واحد – يا للصدفة! – النجاحات الاقتصادية المشهودة، وصالحت الإسلام السياسي مع الحداثة الغربية المباركة، ولبّت شرط الديموقراطية واستحقاق الانتخابات والتداول، لمرّة واحدة بالطبع هي التي توصل الإسلامويين إلى السلطة.
في إدلب اليوم، اضطر أردوغان أخيراً إلى نزع القناع، بعد أقل من عامين على التشاطر والانخراط في مسار أستانا بصفة طرف ضامن ينطوي، كما خمّن، على المكاسب دون أدنى التزام أو مسؤولية مشتركة اللهم إلا بضع عبارات كان يراوغ في تفسيرها تبعاً للظرف والموقف. كان يعلن حرصه على وحدة أراضي سورية في وقت يعمل على إقامة ما يشبه محمية قاعدية ملحقة اقتصادياً وإدارياً وأمنياً بمشروع إعادة إحياء الطورانية. عرّته قمة طهران وفضحت ازدواجيته ونفاقه، فسارع إلى الصحافة الأمريكية يبث حقده ويفضح حقيقة نواياه ويطلب الصفح من عرابيه وولاة أمره في واشنطن ونيويوك. نشر عسكرييه ودباباته على طول الحدود مع سورية في رسالة غامضة تحمل ألف تأويل إلا أنها تشي بخلاصة وحيدة واحدة: ما أحتاجه هو المساعدة!.
أردوغان الوحيد يفتش في الدفاتر القديمة، ولكنه سيعمل وحده من الآن فصاعداً، ولن يجد من يمد له يد العون إلا وفق شروط محدّدة ومُبرمة. انتهى زمن اللعب على الحبال، ولم يعد ذلك رياضة يمكن التسامح بها في سياق الاستقطابات والانشدادات الحاصلة في المواقف الدولية. أردوغان أمام مفترق طرق، قد يهدد هذه المرة بالسقوط الشامل للتجربة الإخوانية برمتها بعد صعود امتد على سنوات “الربيع العربي” كاملة، وإدلب هي اللافتة الأخيرة التي التي مازالت تدغدغ أحلام مرضى وأفاقين إحوانيين استسهلوا لبرهة من الزمن الإمساك بمقاليد الشرق الأوسط من خلال وكالة تشغيل أمريكية، وعلى خلفية الإدعاء بمقاومتها والعداء لسياستها في الهيمنة. من الواضح أنه يكابد الشعور بالخسارة الشاملة والانهيار التام، وأن كثيرين ينظرون إليه بشماتة وتشفٍّ، مستعجلين انفجار الفقاعة التي انتفخت أوداجهم في التضخيم بها حتى لتهدّد اليوم بالانفجار في وجوههم. لقد تحوّل الإخواني “الحداثوي”، الذي وصل إلى الحكم في ظل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بدعم الاعتدال الإسلامي، إلى طائفي داعم بالعتاد والعناصر الأجنبية لجبهة النصرة، ومنشئ لعشرات الكتائب الإرهابية في الشمال السوري، وداعشي عندما تقتضي البراغماتية السياسية، وها هو اليوم ثعلب عجوز بائس تثخنه الجراح الداخلية والخارجية، ويبحث عن انتصارات خُلبيّة على شاكلة عملية استخباراتية داخل الأراضي السورية. لقد حوّل حياته السياسية إلى استعراض دائم وكاميرات وتمثيليات لا تنتهي في ظل المزيد من الاستئثار بالحكم، وهو اليوم يتلاشى ويضمحل أمام الكاميرات وسط عالم من الاستعارات والمنظرة الكاذبة: اقتصاد من الوهم، ونمو قائم على الديون الخارجية، وعجرفة قائمة على الإدعاءات الفارغة والكذب الفاقع.
من الواضح أن أردوغان مُجهد تماماً ولم يعد يملك أدنى طاقة تحمّل، ومن الواضح أيضاً أنه فقد السيطرة على الأوضاع، وأنه لن يجد من يصغي إلى نداءاته التحريضية. لقد قيّض للزعيم الإخواني أن يشهد صعوده واندحاره خلال مسيرة سياسية واحدة، وأن يعاين تجلي وتحطّم طموحاته خلال أقل من عقدين من الزمن عرفا صعود المد الإخواني، وهما يوشكان باكراً على الإقفال على خلفية من الأداء السياسي المترع بالنفاق والانتهازية والتبعية الأطلسية.
إدلب عائدة إلى حضن الشرعية، برضا أردوغان أو رغماً عنه، وعن حلفائه الأطلسيين.
بسام هاشم