“الغاية تبرر الوسيلة” الإكرامية.. ترغيب واستحواذ على الخدمة الجيدة أم تقدير واحترام للجهد المبذول؟!
تأثير غريب بدا لورقة نقدية من فئة المئتي ليرة بعد أن وضعها رجل تبدو عليه مظاهر النعمة والبحبوحة في يد فتى النرجيلة العامل بأحد مقاهي دمشق، ليصبح الفتى المسؤول عن “النارة” قريباً بشكل مستمر من الطاولة، وحريصاً أشد الحرص على إبقاء مزاج صاحب الإكرامية في أعلى حالاته، ودخان نرجيلته في أكثر فترات كثافته، ومع أن الرجل الذي تبدو عليه مظاهر النعمة لم يكن وحيداً في المقهى، لكن المفعول السحري للإكرامية كان ملفتاً فعلاً، فجملة “أوامرك معلم” لم تعد تفارق لسان ذلك الفتى في كل مرة يقترب فيها من الطاولة، خاصة بعد أن حصل على تلك الإكرامية أكثر من مرة، أما على طاولات أخرى من المقهى نفسه فالاهتمام يبدو متشابهاً تقريباً إلى حد ما، ودورة الفحم المشتعل التي يشرف عليها فتية آخرون تطال نراجيل الجميع، لتبقيهم في حالة من الزهو والاسترخاء، وجميع الزبائن تقريباً أصبحوا يتعاملون مع العرف السائد كقاعدة ثابتة تقول: “لا تخرج من المقهى دون أن تترك البخشيش”!!.
عرف ثابت
الملفت أن الإكرامية بشكلها ومفهومها التقليدي لم تعد حالة خاصة بمقهى أو مطعم، بل أصبحت تفصيلاً أساسياً في كثير من النواحي اليومية في الحياة عند المجتمع السوري، يتحدث البعض عن إكراميات يدفعونها لأصحاب مواقف السيارات ليتمكنوا من وضع سياراتهم وركنها، ويتحدث آخرون عن إكراميات يدفعونها لعمال النظافة لتنظيف شوارعهم، أو للعمال للقيام بأعمالهم بصرف النظر عن الأجرة المتفق عليها، أو للأذنة في أماكن العمل للإكثار من طقوس التبجيل والاحترام، وعند ابتياع الخضار أو المواد التموينية من أحد المحلات أو المتاجر لابد من ترك مبلغ بسيط للفتى الذي يقدم المساعدة، وترك مبلغ آخر “للكاشير” الذي يهمل “الفراطة”، ومثله لسائق التكسي الذي لا يرفض أية زيادات على التعرفة والأجرة، وحتى في بعض الأمور التي لا تتطلب إلا جهوداً بسيطة نجد أن هناك من يقدم الإكرامية، ويحرص على وجودها الثابت في تفاصيل يومياته، ولكن في المقابل ماذا عن التأثير السلبي الذي ينجم عن كثرة هذه المظاهر؟ وماذا عن أناس آخرين يجدون في الإكرامية كسباً غير مستحق، وباباً من أبواب التقصير والتقاعس في العمل؟!.
تهرب مشروع
يؤكد أبو معتصم، وهو رجل أربعيني، أن قيامه بدفع إكرامية في حالات نادرة لا يعني أنه يوافق عليها، فحين يحدث هذا الأمر يكون فقط من باب تجنب الإحراج الشخصي مع المجتمع، فالإكرامية في المقهى باتت أمراً شبه ملزم لفتى النرجيلة على سبيل المثال، وحين قام “بالتطنيش” عنها في إحدى المرات تجنب العمال طاولته في المرات التالية، وأصبحوا لا يقربونها إلا بالطلب أكثر من مرة، في حين يتحدث مصعب 33 عاماً، وهو صاحب محل في إحدى ضواحي الريف الدمشقي، كيف توقف عامل النظافة عن التنظيف بالقرب من محله عندما طلب منه إكرامية في إحدى المرات ولم يقدمها، وتساءل: لماذا يجب أن نقدم إكرامية لشخص يقوم بعمله، ويبدو أن التهرب من الإكرامية في الكثير من الحالات لا يكون من باب البخل أو عدم الرغبة في العطاء، ولكن من باب أن الإكرامية بحد ذاتها أصبحت مظهراً مبالغاً به ومحرضاً للكثيرين على عدم العمل أو القيام بوظائفهم وواجباتهم، وفي المقابل يتحدث بعض العمال عن هذه الإكرامية ويدافعون عنها من باب أنها حق مشروع، وعطاء يتم فيه تقدير جهدهم وتعبهم، يقول هاني: إن صاحب العمل في المقهى الذي يعمل فيه يقدم له أجراً زهيداً، ويعلم مسبقاً بشأن الإكراميات التي يحصل عليها، وبالتالي فهو قدر له تلك الإكرامية كجزء من الأجر، ولولاها لترك العمل كما يقول!.
الظاهرة المشؤومة
ومع قلة في الدراسات أو الأبحاث التي طالت تأثير هذه الظاهرة في المجتمع السوري، تبدو دراسات أخرى أجنبية قد حددت موقفها المسبق منها بالنسبة لمجتمعاتها، وبعد سنوات من الاهتمام بهذا النمط الاقتصادي السلبي، والأثر النفسي لتلك الظاهرة، وصفت الدراسات الغربية هذه الظاهرة بالمشؤومة، والملفت أن هناك بعض الدول مثل اليابان على سبيل المثال تحرم الإكراميات أو “البقشيش”، وتعتبره إهانة وتصرفاً يسبب لصاحبه مشاكل وعقوبات قاسية، والوقوع تحت طائلة المساءلة القانونية، في حين توجد دول أخرى يكون “للبقشيش” قيمة محددة لا تزيد عن 10% من قيمة الفاتورة، والملفت في المقابل أن معظم المطاعم والمحلات تتعاطى بالإكرامية كقاعدة ثابتة لها سياسات مختلفة في التعامل، فمنهم من يذهب إلى تقسيم الإكرامية على الموظفين، بينما تقضي سياسة أخرى باحتفاظ الإدارة بها لنفسها، وبالرغم من أن المطاعم أو المقاهي تحتسب ضمن الفاتورة ضريبة على الخدمة، إلا أن من لم يترك “بخشيشاً” يتم تصنيفه “بالبخيل” من قبل الموظفين والعمال!.
فقدان حيوية العمل
يتفق الدكتور إبراهيم ملحم، اختصاصي علم الاجتماع، والمدرّس في جامعة تشرين، على خطورة الإكرامية وانتشارها في المجتمع السوري كعادة سيئة درج عليها، ويمكن النظر إليها اليوم على أنها خدمة مقابل خدمة، ويؤكد ملحم: صحيح أن الإكرامية من أحد الأبواب هي تقدير للعامل ولجهده أو اندفاعه للعمل، لكنها من باب أوسع ظاهرة مخيفة تدفع العامل إلى الإغراء والتذلل للحصول عليها، والامتناع عن العمل إذا لم تقدم له، خاصة حين يعتاد عليها، ويضيف ملحم: للأسف الإكرامية بالمنحى الذي أخذته في المجتمع السوري اليوم تفقد العمل حيويته، وتدفع الشخص إلى الاحتيال على الزبون بطرق مختلفة للحصول عليها، وفي كثير من الأحيان يتم الخلط بينها وبين الرشوة، وتصبح الحدود بينهما شبه غائبة، خاصة حين يتم دفع الناس لتقديمها في الوظائف العامة مقابل عملهم أو خدمات أخرى، وللأسف فالناس اليوم تتعامل مع هذه الظاهرة على أنها عادة جيدة، ويتم تصنيف الناس ككرماء أو بخلاء بحسب ما يدفعونه من إكراميات و”بقشيش”، ومن ناحية أخرى يؤكد ملحم أن دفع “البقشيش” أو الإكرامية من قبل البعض مرتبط إلى حد بعيد بالمظاهر العامة للشخصية، وحرص البعض على الظهور بمظهر “الجنتل” أو “المعلم” أمام الآخرين، والشخص الكريم والطيب وأبي الفقراء، ويختم ملحم: يتم الحد من هذه الظاهرة عندما ترتفع سوية الدخل في المجتمع، وتصبح القوانين التي تتعامل معها أكثر صرامة، ويتغير الوعي الشعبي تجاه هذه الظاهرة المنتشرة في مجتمعنا!.
محمد محمود