“وحدها شجرة الرمان”.. المَوت والحَياة صِنْوان لا يَفتَرِقان
بطل الرواية هنا رفيق الموت على مدار الساعات، سواء من حيث المهنة التي تلبسته دون أن يختارها، أو من حيث الأحداث التي ابتليت بها العراق، ينعش الموت في النهارات عمله وعمل والده من قبله، ويزوره في الليالي فيحرمه متعة المنام.
بكاء الرجال
لذلك يكتشف “جواد كاظم” يوماً إثر يوم أن الحياة تسير كما قدر لها أن تكون، تستمر رغم الموت الذي كان يهطل كالمطر من حوله، وليس أدلّ على ذلك أكثر من شجرة الرّمان التي جاورت “المغيسل/ مكان غسل الموتى” التي كان يراها تزداد جمالاً وعطاء بمرور السنوات مع أنها كانت تستقي وترتوي من مياه غسيل الموتى؛ المكان الذي يعمل فيه والده، كان يلحظ بكاء القادمين إلى أبيه لكنه لم يكن يعلم بالتحديد طبيعة العمل الذي كان يقوم به:
“كانت أول مرة أرى فيها رجلاً بالغاً يبكي، حتى تلك اللحظة كنت أظن أن البكاء من اختصاص النساء والأطفال وحدهم” إنما:”لم أكن في ذلك السن أفقه طبيعة مهنة أبي أو تفاصيلها، كل ما كنت أعرفه أنه “مغسّلجي” لكن هذه الكلمة كانت غامضة لي ولا تعدو كونها مجموعة من أصوات تشبه المهن والحرف الأخرى التي تنتهي أغلبها بـ “جي”.
هوايته والمهنة
هكذا تنقل لنا رواية “وحدها شجرة الرمان” أحزان العراق وآلامه على لسان بطلها جواد الموهوب في الرسم والنحت والذي كان يخطط للسفر إلى الخارج لإتمام دراساته الفنية: “غضب أبي حين اكتشف أني كنت أخطط وجه وجسد ميت كان قد غسله في ذلك الصباح، نهرني قائلاً: عيب ابني الأموات إلهم حرمة! ارسم أبوك، ارسم حمودي شْكَدْ ما تريد، بس عوف الأموات بحالهم” ولجواد شقيق هو أمير الذي أعده الوالدان ليكون مشروع طبيب لكنه يتحول بين ليلة وضحاها إلى شهيد بعد أن يُستدعى لتأدية الخدمة العسكرية فلا يعود منها إلّا في تابوتٍ حُمل على ظهر سيارة وقد لُفَّ بعلم الوطن.
“الله يرحمه والبقية بحياتك” هو كل ما قاله العسكري الذي وقف يراقب المشهد بجانب الباب ثم طلب مني أن أوقع على وثيقة استلام الرُفاة”. مع أن الموت كان يحيط بالأب طوال الوقت إلا أنها المرة الأولى التي لمح جواد فيها دموعه: “المرة الوحيدة التي بكى فيها أبي كانت عندما سمع بخبر موت أخي أمير، الذي كان يكبرني بخمس سنوات، والذي تحول من يومها من الدكتور إلى الشهيد”.
لن تكون الفجيعة الأخيرة في حياته بالطبع إذ كان عليه أن يتآخى مع الموت وهي نصيحة والده له حين فشل في إخفاء خجله وخوفه من مهنة غسيل الموتى، ولم تكن نصيحة الأب سوى الحقيقة التي صار لزاماً عليه أن يتكيف معها، إذ سوف يتكرر الفقدان في حياته، والرواية كانت ابتدأت بقصة حبه المأساوية لفتاته الجميلة: “بادرت إلى تعريفي باسمها ريم… مسرح، فقلت تشرفنا، جواد… تشكيلية، كانت عيناها واسعتين وبسواد ليلي يغوي بالسهر فيهما، تنظران بثقة حين تتكلم” ريما التي لا يلبث أن يفقد أثرها لعامين تعود بعدها للدراسة ثم يفقدها للمرة الثانية وقد نضج الحب لكنها تختفي من حياته تماماً إذ اختارت الابتعاد وتجنيبه الألم بعد أن اكتشفت إصابتها بالسرطان، تاركة له أن يعيد ترتيب حياته من جديد.
مفارقة
وحين يرحل الأب هو الآخر لا يطاوعه قلبه على المشاركة في غسله ويكتشف إثرها أن الحياة والموت صنوان لا يفترقان: “خرجت إلى الحديقة الصغيرة الخلفية وتقرفصت أمام شجرة الرّمان التي كان أبي يحبها كثيراً والتي شربت مياه الموت لعقود، وها هي الآن تستعد لشرب الماء المنساب من جسده هو.. في صغري كنت آكل ثمار هذه الشجرة حين يقطفها أبي ويعود بها إلى بيتنا بنهم”.
سوف يعاني الأمرين كي يتمكن من دفن والده وقد احتل الأمريكان النجف حيث يتوجه ورفيقه لإيصال الأب إلى مقره الأخير: “اقتربت الهِمْفي ببطء وبدت كأنها حيوان خرافي يفكر بافتراسنا، خيم الصمت وكان هناك أزيز طائرات بعيدة،عندما أصبحت الهمفي على بعد ثلاثين أو أربعين متراً توقفت وأخذ الجندي الذي على قمتها يصرخ عدة مرات: “كت آوت أوف ذا كار ناو” هنا كان عليه أن يقوم بالتفسير لصاحبه حمودي أن المعاناة قد بدأت مرة أخرى.
لن تعرقل الحرب دفن الأب فقط بل ستقفل كل باب للحلم كان اعتقد أن باستطاعته طرقه، تشتد عليه الظروف يمنع من السفر وقد كان آخر ما فكر باللجوء إليه من حلول، عمل في كثير من الأعمال لكن الأقدار سوف تعيده إلى البداية سوف تعيده صاغراً إلى غسيل الأموات بصورة أشد قسوة من قبل وهل أكثر فجائعية أن يغسل الميت أجزاء وأشلاء.
رغم سوداوية الفكرة وقتامة الحياة التي عاشها بطل الرواية ورغم غوص الكاتب عميقاً في تفاصيل بعض الأحداث لدرجة صادمة أحياناً، ولجوئه إلى لهجة عراقية شديدة المحلية يصعب فهم بعض مفرداتها أحياناً، تأتي حكايته بقلم “سنان أنطون” وهو شاعر وأكاديمي عراقي، تأتي سردية سلسة ومؤثرة في كل مفاصلها، يتداخل فيها الواقع مع الحلم أو هي على الأصح كوابيس احتلت مساحة واسعة من صفحات الرواية البالغة 250 صفحة والتي أعطتها جواً من الفانتازيا الأدبية، أبطالها هو والموتى الذين مروا بين يديه، حضور الموت كان طاغٍ لكنه يواجهه بحبه للفن، ما يدخل جواد في صراعات دائمة مع تلك المفارقة الكبيرة، تفتح في نهايات كل انكساراتها باباً للأمل والحياة؛ يأخذ منه القدر حبيبته الأولى ويمنحه أخرى، يسيطر الموت على محيطه وعمله فيصرفه إلى اكتشاف الحقيقة الأكبر في حياته “من الموت تولد الحياة” وتولد في رأسه الكثير من الأسئلة الوجودية، ورغم أن كل فرح ومتعة مر بها كانت مسكونة بالحزن والأسى، إلا أنه كان عليه الاستمرار بل عليه انتزاع الفرح انتزاعاً، عليه أن يتمثل بالشجرة العنيدة شجرة الرمان: “عجيبة هذه الشجرة تشرب ماء الموت منذ عقود لكنها تظل تورق كل ربيع وتزهر وتثمر…. الأحياء يموتون أو يسافرون والموتى يجيئون، كنت أظن أن الحياة والموت عالمان منفصلان بينهما حدود واضحة، لكنني الآن أعرف أنهما متلاحمان وينحتان بعضهما البعض، الواحد يسقي الآخر من كأسه، أبي كان يعرف هذا وشجرة الرمان تعرف هذا جيداً، أنا مثل شجرة الرمان، لكن كل أغصاني قطعت وكسرت ودفنت مع جثث الموتى”. عمل يفكك مأساة عراقيّ واحد لكنها تختصر مأساة بلد بأكمله وما يأمله له، إذ ليس جواد وحده الذي يتمثل شجرة الرمان بل هي البلاد؟ وليست شجرة الرمان الوحيدة التي تعرف، لا بد أنه على الجميع أن يعرف ذلك ويجيد صنع الحياة التي تليق به.
بشرى الحكيم