الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أزمنة مختلفة وطغيان واحد

عبد الكريم النّاعم

المؤكَّد أنّ جوهر الطغيان واحد، مهما اختلفت بعض تفصيلاته، حتى لكأنّه قانون شبه متّفق عليه بالنسبة للطغاة، ونحن حين نعود إلى مقطع أو أكثر من هذا الطغيان فبهدف إيقاظ روح مقاومة الظّلم، سياسيّاً كان، أم اقتصادياً، أم احتلاليّاً، لأنّ الطغيان يتناقض مع تكريم الله عزّ وجلّ للإنسان، “كما يتنافر مع الكرامة الإنسانية التي تعني الكفاية والعدل.

المقطع الأوّل سآخذه من فترة الخلافة الأمويّة، التي كان من أبرز أعمدتها الحجّاج، وسيرته تملأ صفحات وصفحات من تاريخ زمنه، ولم يُجدِ فيها تلميع الملمّعين، وانحياز المنحازين، وهو الذي قال أثناء ولايته على العراق، ما معناه: “واللّه لا آمرنّكم بالخروج من باب واحد في المسجد، ثمّ يخرج أحدكم من غيره إلاّ ضربتُ عنقه”، فهو يريد سلب حتى الإرادة الصغيرة، وإشاعة الرّعب، وأن تطأطئ لما يقوله الرّقاب حتى يضمن سلامة الصولجان الذي أوكل إليه هذه المهمّة.

هذا الحجّاج الأنّموذج، أوصى به الخليفة عبد الملك بن مروان، وهو على فراش الموت، فقال لابنه: “وانظرْ إلى الحجّاج فأكْرمْه، فإنّه هو الذي وطّأ لكم المَنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على مَن ناوأك، فلا تسمعنْ فيه قول أحد، أنت إليه أحوج منه إليك، وادْعُ النّاس إلى البيعة إذا متّ، فمنْ قال برأسه هكذا، فقلْ بسيفك هكذا”.

المقطع الثاني آخذه من الخلافة العبّاسيّة فقد حدّد الخليفة المنصور “برنامجه السياسي بوضوح لا لَبْس فيه، أخذ بقائم سيفه فقال: “أيّها النّاس إنّ بكم داء هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، فَلْيعتبرْ عبدٌ قبلَ أن يُعتبَر به،” هذا المنصور: كتب في وصيّته لابنه المهديّ: إنّي تركتُ لك الناس ثلاثة أصناف، فقيرا لا يرجو إلاّ غناك، وخائفا لا يرجو إلاّ أمْنك، ومسجونا لا يرجو الفرج إلاّ منك”.

إذن تلك هي الرعيّة التي تركها له جبروت أبيه!.

هنا لابدّ من الإشارة إلى نقطتين هامّتين:

الأولى: أنّ معظم حكّام الدّنيا، بحسب ما تروي التواريخ الموثوقة، كانوا هكذا، وأنّ الحاكم الرّحيم العادل الفاضل كان يمرّ شبه خلسة مرور السحاب، وما أقلّهم.

الثانية: لعلّ مَن يتساءل، إذا كانت تلك الصفة الغالبة في الحكْم هكذا، فمن أين جاءت تلك الإبداعات في العلوم، واللغة، والعمارة، وريّ الأرض، وإشادة العمران الدّال على تلك المدنيّة؟ هنا لابدّ من التنبّه إلى أنّ روح الأمّة في تجلّيها الحضاري المحفوظ لها لدى المؤرّخين الأمناء، يقف شاهداً على أنّ روح هذه الأمّة قد تجلّت بأبهى عطاءاتها في تلك المنجزات التي قدّمتها أمّة ما إلى الإنسانية، فهي من إبداع الشعب، وليست من إبداع الحاكم، ولعلّ بعضهم رعى تلك العلوم من باب الاحتياج إليها، ليس إلاّ.

حين نعود إلى بعض تلك المقاطع فليس لتقزيم أحد، بل للإشارة إلى أنّ روح الشعب هي التي تحقّق النهضة، والتقدّم، والعدل، ولا مناص من شحن هذه الروح بكل الوسائل المطلوبة، للخروج إلى ما يليق بكرامة الإنسان…

aaalnaem@gmail.com